إن
استيعاب ابن خلدون لمفهوم المصالح لم يقـف عند الجانب النظري، المتمثل في
التاكيد علــــى رعاية الشريعة للمصلحة، وإنما عمل علـــــــــى استثمار التحليل
المقاصدي والتعليل المصلحي في كثير من اجتهاداته ومواقفه وآرائهوبالإمكان
تجلية هذه الحقيقة من خلال الفروع التاليـــــــــة:
الفرع الأول: تقسيمه الأفعال الإنسانية باعتبـــــار مصلحتها ونفعها.
يقسم ابن خلدون الأفعال الإنسانية باعتبار ما تستحقه من الأهمية وما تحققه من النفع إلى: ما يهم المرء في الدين والدنيا، وما لا يهم لا في الدين ولا في الدنيا، وهذا على أنواع: ما فيه ضرر. ما فيه نوع ضرر. ما لاضرر فيه وليس بمهم.
أما ما فيه ضرر أو نوع ضرر فإن الشرع يحرمه نظرا لأثرهما المماثل المتمثل في إلحاق المفسدة والضرر.
وما لاضرر فيه ولكن لا أهمية له ولا نفع، فإن فقه الأولويات والموازنات لدى ابن خلدون يقضي بأولوية تركه لخلوه من المصلحة وترجيح الانشغال بما يهم المكلف ويعنيه ويغنيه في الدنيا والدين.
هذا ما يقرره ابن خلدون عند تبيانه لموقف الشريعة من السحر والطلسمات، يقول:" وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات، وجعلته كله بابا واحدا محظورا، لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا[1]، وما لايهمنا في شيء منها؛ فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع ويلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد، وكالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله، فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر، وإن لم يكن مهما علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه"، فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر، وخصته بالحظر والتحريم[2].
هذا المقتبس الخلدوني يحيل على رؤية مقاصدية ثاقبة هذه بعض معالمها:
-المشروع من أفعال العباد ما كان مهما دينيا أو دنيويا، أي فيه مصلحة في المعاش أو المعاد. وما لا ثمرة له ولا فائدة فالأولى والمستحسن تركه. يقول ابن خلدون في الشفاء:" والقاعدة المستقرأة من الشريعة أن كل ما لايهم المكلف في معاشه ولا في دينه هو مأمور بتركه. قال صلى الله عليه وسلم:" من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه[3]". قيل: هذا الحديث ثلث الدين. فما يهم المكلف في دينه أو معاشه فغير محظور..وما لايهم المكلف في دينه ولا في معاشه تجده محظورا"[4]. وقد ذكر ولي الله الدهلوي هذا الحديث وقال:"كل شغل بما سوى الله نكتة سوداء في مرآة النفس. إلا أن ما لا بد منه في حياته إذا كان بنية البلاغ[5] معفو عنه، وأما ما سوى ذلك فواعظ الله في قلب المؤمن يأمر بالكف عنه"[6].
-الأفعال ذات الأثر الواحد لها حكم واحد. إذ المعلوم أن الشارع يساوي بين المتماثلين في الحكم ويفرق بين المختلفين. بناء على هذه القاعدة فرقت الشريعة في العقوبات لأنها ليست ذات أثر واحد، بل هي مختلفة الآثار والأخطار، فليس إزهاق الروح كالزنا، وليس الزنا كالقذف، بل"تفاوتت الجنايات فتفاوتت العقوبات"[7]"والتسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة"[8].
-الأفعال المحرمة ليست على وزان واحد، وإنما تتفاوت على نسبتها في الضرر، فما كان ضرره أشد كان تحريمه آكد. فإن الذنب يعظم بعظم المفسدة، وأعظم المفاسد ما خرق سياج الدين كما يبين ابن خلدون في بيانه لخطورة التولي يوم الزحف، إذ يقول: "من هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف، فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام...فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة إن وقعت، وصار كأنه جرها على المسلمين، وأمكن فيهم عدوهم، فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعديها إلى الدين بخرق سياجه، فعد من الكبائر"[9].
- الأفعال غير المهمة والتي لا ضرر فيها يندب الشارع إلى تركها من باب سد الذرائع، ولأنها لا تخدم مصلحة ولا تهدم مفسدة فكان تركها أولى من فعلها.
وقد تنبه الإمام الشاطبي لهذه المسألة، أعني مسألة ما لا ضرر فيه ولكنه أيضا لا فائدة فيه، ويشمل ذلك كل ما لا يكون خادما لكلي ضروري او تابع ومكمل له، واعتبرها" من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا، كقوله تعالى:"وإذا رأوا تجارة أو لهوا"[10]وفي الحديث:"كل لهو باطل إلا ثلاثة"[11]، فعده مما لا فائدة فيه؛ إلا الثلاثة، فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها ولم يجعلها باطلا"[12].
أما ما فيه ضرر أو نوع ضرر فإن الشرع يحرمه نظرا لأثرهما المماثل المتمثل في إلحاق المفسدة والضرر.
وما لاضرر فيه ولكن لا أهمية له ولا نفع، فإن فقه الأولويات والموازنات لدى ابن خلدون يقضي بأولوية تركه لخلوه من المصلحة وترجيح الانشغال بما يهم المكلف ويعنيه ويغنيه في الدنيا والدين.
هذا ما يقرره ابن خلدون عند تبيانه لموقف الشريعة من السحر والطلسمات، يقول:" وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات، وجعلته كله بابا واحدا محظورا، لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا[1]، وما لايهمنا في شيء منها؛ فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع ويلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد، وكالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله، فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر، وإن لم يكن مهما علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه"، فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر، وخصته بالحظر والتحريم[2].
هذا المقتبس الخلدوني يحيل على رؤية مقاصدية ثاقبة هذه بعض معالمها:
-المشروع من أفعال العباد ما كان مهما دينيا أو دنيويا، أي فيه مصلحة في المعاش أو المعاد. وما لا ثمرة له ولا فائدة فالأولى والمستحسن تركه. يقول ابن خلدون في الشفاء:" والقاعدة المستقرأة من الشريعة أن كل ما لايهم المكلف في معاشه ولا في دينه هو مأمور بتركه. قال صلى الله عليه وسلم:" من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه[3]". قيل: هذا الحديث ثلث الدين. فما يهم المكلف في دينه أو معاشه فغير محظور..وما لايهم المكلف في دينه ولا في معاشه تجده محظورا"[4]. وقد ذكر ولي الله الدهلوي هذا الحديث وقال:"كل شغل بما سوى الله نكتة سوداء في مرآة النفس. إلا أن ما لا بد منه في حياته إذا كان بنية البلاغ[5] معفو عنه، وأما ما سوى ذلك فواعظ الله في قلب المؤمن يأمر بالكف عنه"[6].
-الأفعال ذات الأثر الواحد لها حكم واحد. إذ المعلوم أن الشارع يساوي بين المتماثلين في الحكم ويفرق بين المختلفين. بناء على هذه القاعدة فرقت الشريعة في العقوبات لأنها ليست ذات أثر واحد، بل هي مختلفة الآثار والأخطار، فليس إزهاق الروح كالزنا، وليس الزنا كالقذف، بل"تفاوتت الجنايات فتفاوتت العقوبات"[7]"والتسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة"[8].
-الأفعال المحرمة ليست على وزان واحد، وإنما تتفاوت على نسبتها في الضرر، فما كان ضرره أشد كان تحريمه آكد. فإن الذنب يعظم بعظم المفسدة، وأعظم المفاسد ما خرق سياج الدين كما يبين ابن خلدون في بيانه لخطورة التولي يوم الزحف، إذ يقول: "من هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف، فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام...فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف، وباء بإثم الهزيمة إن وقعت، وصار كأنه جرها على المسلمين، وأمكن فيهم عدوهم، فعظم الذنب لعموم المفسدة، وتعديها إلى الدين بخرق سياجه، فعد من الكبائر"[9].
- الأفعال غير المهمة والتي لا ضرر فيها يندب الشارع إلى تركها من باب سد الذرائع، ولأنها لا تخدم مصلحة ولا تهدم مفسدة فكان تركها أولى من فعلها.
وقد تنبه الإمام الشاطبي لهذه المسألة، أعني مسألة ما لا ضرر فيه ولكنه أيضا لا فائدة فيه، ويشمل ذلك كل ما لا يكون خادما لكلي ضروري او تابع ومكمل له، واعتبرها" من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا، كقوله تعالى:"وإذا رأوا تجارة أو لهوا"[10]وفي الحديث:"كل لهو باطل إلا ثلاثة"[11]، فعده مما لا فائدة فيه؛ إلا الثلاثة، فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها ولم يجعلها باطلا"[12].
اقرأ أيضا |
|
وللإمام الشاطبي كلام وازن في مسألة قريبة من هذه المسألة، فقد تحدث في المقدمة الخامسة عن الخوض فيما ليس تحته عمل، سواء كان من عمل القلب أو من عمل الجوارح، وسطر القاعدة التالية: " كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي"[13].
ولم يكتف بالتأصيل للقاعدة، بل لجأ –كعادته في الموافقات- إلى الاستدلال على صحتها وتقديم أوجه استحسانها، فذكر من هذه الأوجه[14]:
منها: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف الذي طوقه المكلف بما لا يعني؛ إذ لا ينبني على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ أما في الآخرة فإنه إنما يسأل عما أمر به أو نهي عنه؛ وأما في الدنيا فإن علمه بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه..فإذاً قطع الزمان فيما لايجني ثمرة في الدارين، مع تعطيل ما يجني الثمرة، من فعل ما لا ينبغي.
ومنها: أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية: فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية، تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب.
وقد عد الدهلوي الاهتمام بما لا يعني ولا يغني من أصول عادات الأعاجم وتعمقاتهم، ومفسدات العمارة.وذكر منها: "الاشتغال بالمسليات وهي ما يسلي النفس عن هم آخرته ودنياه ويضيع الأوقات كالمعازف والشطرنج واللعب بالحمام واللعب بتحريش البهائم ونحوها؛ فإن الإنسان إذا اشتغل بهذه الأشياء لها عن طعامه وشرابه وحاجته..فإن جرى الرسم بالاشتغال بها صار الناس كلا على المدينة ، ولم يتوجهوا إلى إصلاح نفوسهم"[15].
نخلص من خلال هذا العرض إلى أن الفكر المقاصدي فكر غائي، وهو أيضا فكر وسائلي، يسطر الغايات، ويقرر الحالات، ويحدد لها الوسائل والآلات. وبدون العناية بالوسائل لا يكون الفكر غائيا، بل يكون عبثيا، إذ كيف يعقل تحقيق المقاصد بمعزل عن وسائلها. والاحتراز في الوسائل والآلات ضروري ضرورة الاحتراز في المقاصد والنيات، فليحذر المرء من ان تكون وسائله لغوا وعبثا، لا تفيده ولا تغنيه في خدمة أهدافه ومقاصده.
وقد اتضح أن الشريعة لا تأمر إلا بالمهم والنافع والصالح، أما ما ليس بمهم فالأولى تركه، لأنه إذا لم يكن مهما دينيا ولا دنيويا فليس بنافع ولا صالح.
والحق ان الأفعال غير المهمة دينيا ولا دنيويا ضارة بالمسلم، ضارة بنفسه ووقته ومجتمعه ودينه وآخرته. وهل هناك ضرر أشد من إضاعة المسلم وقته في ما لا يعني ولا يغني، وتركه ما يعني إلى ما لا يعني، ناهيك بما يحدثه ذلك من إثارة الفتن والوقوع في الخباط، والتنكب عن سواء الصراط، وذهاب شعار البأس والرجولية.
الفرع الثاني: التفسير المصلحي للنصوص.
وهو دليل فكر مقاصدي، ذلك أن النصوص تفسر بمقاصدها لا بظواهرها فحسب. وهو مرتقى عسير ليس بيسير، قد يتهيب البعض اقتحامه، وقد ينكره، وقد ينفر منه، على الرغم من انه مسلك تضافر الفقهاء- عدا الظاهربة- على العمل به.
ولا أرى ما يدعو إلى النفور منه إذا كان التصدي له بأدواته وآلياته وشرائطه، بل أرى أن من الواجب على علمائنا أهل التخصص والتخلق والتحقق اقتحام هذه العقية الكؤود، خصوصا في العصر الراهن الذي تعددت فيه الأقضية والوقائع، وتنوعت فيه المذاهب والأنظمة والرؤى والتوجهات، ولا بد من أن يكون للشريعة مدخل في إنتاج الحلول الإسلامية الأصيلة النابعة من نصوص الوحي، والمستلهمة لمقاصد الشرع، وإلا فالنتيجة الحتمية تضييع الشريعة، وإذا أمسك المتخصصون عن الاجتهاد المصلحي، والنظر المقاصدي، أطلق المتخرصون العنان لأنفسهم لتمييع الأحكام، وربما باسم الإسلام.
وقد تحدث الدكتور أحمد الريسوني عن التفسير المصلحي للنصوص ضمن مجالات العقل في تقدير المصالح، وبين معنى النفسير المصلحي بقوله:"وأعني بذلك أن تفسير الفقهاء للنصوص، واستنباطهم منها، تستحضر فيه وتستصحب المعاني والحكم والمصالح التي يعمل الشرع على تحقيقها ورعايتها"[16].
والتفسير المصلحي للنصوص واضح لدى العلامة ابن خلدون، خصوصا في مجال السياسة الشرعية. فهو يرى أن المقصد الأهم من الخلافة أو الملك هو الحفاظ على المعاني والمقاصد الشرعية للخلافة في الخليقة من حماية الدين، والسير على منهاج النبوة والخلافة الشرعية. جاء في المقدمة:" فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيير إلا في الوازع الذي كان دينا، ثم انقلب عصبية وسيفا"[17]. ومن ثم نظر ابن خلدون إلى صفة القرشية أو النسب القرشي نظرة مصلحية، وفسر القرشية بثمارها ومقاصدها ومصالحها المتمثلة في ما يسميه "العصبية"، متى كانت المصلحة تقتضي ذلك حفاظا على الدين ومصالح الإسلام والمسلمين، "من ثمارهم تعرفونهم، المهم النتائج والمفاعيل"[18]. وقد وضع فصلا في المقدمة بعنوان:" فصل في أن الدعوة الدينية بغير عصبية لا تتم"[19].
ولا يفهم أنه ابن خلدون ينفي اشتراط النسب القرشي في من يتولى خلافة المسلمين، وإنما يخصصه بالمصلحة الشرعية[20]، ويرد على الظاهرية الذين تعلقوا بظواهر بعض الأحاديث والآثار لنفي القول بهذا الشرط في خليفة المسلمين، وفي هذا يقول: " إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة، وتغلبت عليهم الأعاجم وصار الحل والعقد لهم، فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشية، وعولوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة"[21]، وهذا لا تقوم به حجة في ذلك، فإنه خرج مخرج التمثيل والفرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة؛ ومثل قول عمر" لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته" أو لما دخلتني فيه الظنة"، وهو أيضا لا يفيد في ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة، وأيضا فمولى القوم منهم، وعصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش، وهي الفائدة في اشتراط النسب..."[22].
يرى ابن خلدون إذا، أن المقصد والفائدة في اشتراط النسب عائدة إلى العصبية، أما التبرك بالنسب القرشي فليس من مقاصد الشريعة، يقول مبينا المقصد الشرعي من اشتراط النسب:" إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها، وتشرع لأجلها. ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه، لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصودة من مشروعيتها. وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها"[23].
وهذا النص يجلي رؤية ابن خلدون المقاصدية، وتفسيره المصلحي للنصوص الشرعية. فهو ينظر إلى الأمور نظرة مصلحية مقاصدية يهمها تحقيق مقاصد الشريعة ومعاني الأحكام الشرعية. وهذا هو الغرض المقصود من الخلافة، فإذا تحققت معاني الشرع ومقاصد الدين بملك أو سياسة مثلا، من إقامة الدين وتحري الحق والمصالح الشرعية فهو المطلوب تحصيله شرعا، والعصبية تجمع القلوب على الإمام، وتحقق توحد الأمة، وقد يكون معنى العصبية هو ما أشار إليه ولي الله الدهلوي عند ذكره لصفات الإمام الخليفة، قال:" يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس عن طاعته لجلالة نسبه وحسبه، فإن من لا نسب له يراه الناس حقيرا ذليلا، وأن يكون ممن عرف منهم الرياسات والشرف، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه، وينصرونه، ويبذلون دون الأنفس..."[24].
ولبعض المفكرين انتقادات على التفسير الخلدوني للنسب القرشي، الذي يرى فيه إلغاء للنص المشترط للنسب.
يقول الدكتور فاروق النبهان عن هذا التفسير:"وهو تفسير بالرغم من أهميته يؤدي بطريقة مباشرة وأكيدة إلى إلغاء النص، لأنه في ظل هذا المفهوم يفقد قيمته، ويدخل ضمن شروط الكفاية، التي تدعو إليها مصلحة المسلمين..."[25].
ويقول الدكتور مصطفى الشكعة:"إن هذا الرأي الذي انتهى إليه ابن خلدون-رأيه في النسب القرشي- يتسم بالكثير من المنطق التبريري، ولقد استعمل ابن خلدون نهج الأصوليين وأسلوب المناطقة، مع الاستشهاد ببعض فترات التاريخ حين ضعفت العصبية القرشية، ووهنت الحمية العربية..."[26].
ومهما يكن من أمر هذه الانتقادات، فالدكتور النبهان نفسه يعترف بأهمية هذا التفسير، والدكتور الشكعة يقر باستناد ابن خلدون في هذا التحليل والتخصيص للنص الحديثي للواقع التاريخي في عصره، فهو تخصيص مصلحي للنص وليس إلغاء له، فمتى استدعت المصلحة ضرورة تنصيب الإمام ولم يكن هناك قرشي يصلح لهذا المنصب، فلا ينبغي تركه شاغرا، وإلا ضاع الدين، وحفظ الدين من الضروريات التي تقدم على النسب القرشي، "فإن الدين أحرى بالرعاية، وأولى بالكلاءة، وأخلق بالعناية، وأجدر بالوقاية، وأليق بالحماية"[27].
والحق أن قضية التمييز بين ما هو مقصود لذاته وغايته وما هو مقصود لغيره، مسألة صعبة، وفقه المقاصد يستوجب الاعتناء بحقائق الأمور وأرواحها وليس بمظاهرها وأشباحها، فالملك أو الخلافة ليسا مقصودين لذاتهما وإنما هما مطلوبان من حيث المصالح التي تجلب للرعايا المواطنين، والمفاسد التي تدفع عنهم، يقول الدكتور حسن الترابي:"والتكليف قد يقتصر على توخي الروح دون اشتراط شكل معين وقد يشتمل اعتماد بعض أشكال التعبير عنها طلبا أو نهيا. ومن أعسر قضايا الفقه الديني إدراك ما هو مقصود بغايته وصورته أيضا بالنية والشكل معا من مظاهر التدين التي جاء بها النموذج الشرعي عهد نزول القرآن وحياة الرسول صلى الله عليه وآله، وما جاءت فيه الصورة عرضا غير مشروطة بذاتها على التأييد[28] بل لكونها وسيلة التعبير المتاحة في تلك البيئة الأولى من مقصود الشرع"[29].
والحق ما قال فإن النظر المصلحي مرتقى عسير، ومورد ليس بيسير، خصوصا إذا تعلق الأمر بدقائق المصالح بالمفاسد، وامتزاج بعضها ببعض، يقول الطاهر بن عاشور:" فإن أصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة. فمقام الشرائع في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل والامتثال له فيها هين، واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير. فأما دقائق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك هو المقام المرتبك، وفيه تتفاوت مذارك العقلاء اهتداء وغفلة، وقبولا وإعراضا..."[30].
[1]- ينظر العلاقة بين فقه الأولويات وفقه الموازنات في كتاب الدكتور يوسف القرضاوي: فقه الأولويات، ص29 وما بعدها، ويرى الكتور القرضاوي أن الأمة المسلمة اليوم في مسيس الحاجة إلى خمسة أنواع من الفقه، هي: فقه المقاصد، فقه الأولويات، فقه السنن، فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقه الاختلاف. ينظر معاني هذه الأنواع في كتاب: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ص7-8.
[2]- الفوائد،ابن قيم الجوزية
[3]- إغاثة اللهفان، ابن قيم الجوزية
[4]- شفاء العليل، ابن قيم الجوزية
[5]- الموافقات، الإمام الشاطبي
[6] - الحديث بتمامه: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". ينظر صحيح البخاري، 1/3.حديث رقم 1.باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده. صحيح مسلم 3/1515. حديث رقم1907.باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال.
[7]- المقدمة، ابن خلدون
[8]- المقدمة، ابن خلدون
[9]- قال الدكتور علي عبد الواحد محقق المقدمة : وعبارة من أجل المرد غير واضحة الدلالة، والذي يظهر أن مقصود ابن خلدون بهذه العبارة: الأشياء الضرورية والحقائق الكلية، لأن الشارع يقصد بالأحكام حقائقها وأرواحها لا صورها وظواهرها فحسب. يزكي هذا الفهم النص الخلدوني التالي:" الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة، وهو(أي العمران) الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لايمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع، فتتعين السياسة لذلك إما الشرعية أو الملكية، وهو معنى الدولة، وإذا كان لا ينفكان فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه". وواضح من النص أن ابن خلدون يقصد مصطلحي الصورة والمادة التعبير عن الأصل والفرع، فالملك والدولة يمثلان الصورة أي الفرع، والعمران يمثل الأصل، أي أن المقصود من الملك والدولة هو حفظ العمران. ولا حفظ للعمران بدون دولة، ولا دولة بدون رعيها لهذا المقصد الأصلي. فيكون معنى قوله: لا يفوت الخير الكثير والمصلحة الغالبة، لوجود الشر اليسير والمفسدة المرجوحة، بل يتم تغليب المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، حفاظا على ما في تلك المصالح الغالبة من المواد . والله أعلم.
[10]- المقدمة، ابن خلدون
[11]- تفسير الطبري.
[12]- سورة الكهف، 78.
[13]- الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي
[14]- يشمل فقه الموازنات: الموازنة بين المصالح، الموازنة بين المفاسد والأضرار، الموازنة بين المصالح المادية والمعنوية، الموازنة بين المصالح والمفاسد. ينظر هذه الأنواع والمراتب مرفقة بأدلتها القرآنية في كتاب: أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، الدكتور يوسف القرضاوي، ص34.
[15]- الموافقات، الإمام الشاطبي
[16]- صحيح ابن حبان، كتاب الزكاة، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك، ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله إذا قام بحقوقه فيه، حديث رقم 3210، 8/5-6. قال المصنف: أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف قال حدثنا نصر بن علي قال أخبرنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا موسى بن علي قال سمعت أبي أنه سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عمرو نعم المال الصالح مع الرجل الصالح".
[17]- المقدمة.
[18]- سورة الممتحنة، الآية 3.
[19]- المقدمة. وفي قوله اقتباس من قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون:"ياقوم إنما هذه الحياة اللدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار". سورة غافر، الآية 39.
[20]- المقدمة.
[21]- فتح الباري.ابن حجر العسقلاني
[22]- "عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال: لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول لا تغضب". سنن الترمذي، ، باب ما جاء في كثرة الغضب، حديث رقم 2020، 4/371. فتح الباري، 10/519. شرح الزرقاني على الموطأ، 4/324. وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:علمني شيئا ولا تكثر علي لعلي أعيه. قال: لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول لا تغضب.
وهذا الحديث كما نقل السيوطي عن ابن عبد البر"من الكلام القليل الألفاظ الجامع للمعاني الكثيرة والفوائد الجليلة"، وقال الباجي:"جمع له صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد لأن الغضب يفسد كثيرا من الدين والدنيا لما يصدر عنه من قول أو فعل". تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، الإمام السيوطي، ص808.
[23]- فتح الباري.
[24] - وقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية الناس في غضبهم إلى ثلاثة أقسام:" قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم، وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم، والثالث وهو الوسط أن يغضب لا لنفسه، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" فاما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا". مجموع الفتاوى 28/295. الحديث في صحيح مسلم، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته، حديث رقم2328، 4/1814.
[25]- السياسة الشرعية،ابن تيمية. ابن خلدون وابن تيمية كلاهما في هذا المقام يستوعبان ما كتبه حجة الإسلام الإمام الغزالي في الإحياء، وينهلان منه.فقد ذكر بأن القوة الغضبية في الناس ما بين إلى ثلاث درجات: تفريط وإفراط وكلاهما مذموم، والمحمود التوسط والاعتدال؛" أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له..وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر..إلى أن قال:...ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود غضب ينتطر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث بحسن الحلم، وجعله على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط...". ينظر إحياء غلوم الدين.
[26]- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، الكاساني
[27]- القواعد الصغرى، العز بن عبد السلام.
[28]- موطأ الإمام مالك، كتاب الجهاد، الترغيب في الجهاد، حديث رقم 958، 2/444، صحيح مسلم، باب إثم مانع الزكاة، 2/681.
[29]- الموافقات.
[30]- الموافقات.
[31]- الموافقات.
<
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق