السبت، 9 مايو 2020

منهج أصوليي المالكية في تقسيم دلالات الألفاظ والاستدلال بها. الجزء الثاني

دلالات الألفاظ





يببن ابن رشد متى يعتبر اللفظ دالا من جهة المفهوم بقوله: "واللفظ كما تقدم من قولنا إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل، ولذلك لا تكون دلالته عند ذلك إلا من جهة القرائن، فإن كانت القرينة غير متبدلة وقاطعة على مفهومه سمي أيضا ههنا نصا، وإن كانت ظنية أكثرية سمي أيضا ظاهرا، وإن كانت ظنية غير مترجحة سمي مجملا، وطلب دليله من موضع آخر"[1]
                                       
                                              

المطلب الثاني: الدال بالقرينة والمفهوم وأقسامه


يبين ابن رشد متى يعتبر اللفظ دالا من جهة المفهوم بقوله: "واللفظ كما تقدم من قولنا إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل، ولذلك لا تكون دلالته عند ذلك إلا من جهة القرائن، فإن كانت القرينة غير متبدلة وقاطعة على مفهومه سمي أيضا ههنا نصا، وإن كانت ظنية أكثرية سمي أيضا ظاهرا، وإن كانت ظنية غير مترجحة سمي مجملا، وطلب دليله من موضع آخر"[1].....

يسمي  ابن رشد الدلالة الاقترانية: "الدال بمفهومه من أجل الحذف"، ويقسمه إلى أقسام، نذكرها مع  التمثيل لكل قسم:

القسم الأول: ما كان من ذلك بمنزلة النص ومثاله: 

قوله تعالى:"وَسْـَٔلِ اِ۬لْقَرْيَةَ اَ۬لتِے كُنَّا فِيها"[2]، فإنه يعلم قطعا أنه أراد أهل القرية، وكذلك قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ "ﱠ[3]. فإن المفهوم ههنا قطعا إنما هو النكاح[4].

 ويسمى الدال بمفهومه من أجل الحذف عند الباقلاني ب"المفهوم بلحنه"، ذلك أنه أدرج قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ" وما شابه، ضمن ما أسماه: التحليل والتحريم المعلق في ظاهره بالأعيان، وألحقه بـ"المفهوم بلحنه من غير قياس" وعلل ذلك بقوله:" لأن المفهوم من تحريم كل شيء من هذه المذكورات تحريم ضرب ونوع من التصرف فيها في وضع اللسان وتفاهم أهل الخطاب من غير اختلاف ولا تنازع في المعلوم منه عند سماعه"[5].


وجعل المازري المحذوف كالمنطوق به من جهة العرف، فقد ذكر الخلاف في الآية السابق ذكرها، عند حديثه عن اللفظ المجمل والجهات الثمانية التي يعرض منها الإجمال، يقول:" وقد يعرض الإجمال من ناحية تعلق الحكم بالأعيان المعلوم أنها لا تدخل تحت قُدرنا كقوله تعالى:"ﱡحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ "وكقوله:" أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اُ۬لَانْعَٰمِ "[6] ، ومعلوم أن نفس بهيمة الأنعام، ونفس الأم لا يوصفان بتحليل أو تحريم، لأنا لا قدرة لنا على ذواتها، وإنما لنا قدرة على التصرف فيها، والتكليف إنما يتعلق بمقدور عليه. وقد اختلف الأصوليون في هذا:
فرآه بعضهم مجملا لأجل العلم بأن نفس ما يتناوله اللفظ من الأم والبهيمة غير مراد، وأن المراد غيره، وهذا الغير مراد غير منطوق به، وما لم ينطق به لا يعرف.

 وقال آخرون: ليس هذا بمجمل، لأن عرف التخاطب أغنى عن النطق، وقد علم أن المراد بقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ"ﱠ وطء أمهاتكم، وبقوله: "أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اُ۬لَانْعَٰمِ"ﱠ أي أكل بهيمة الأنعام والانتفاع بها، فصار المحذوف هاهنا كالمنطوق به، لما فهم من جهة العرف[7]. وهذا الرأي الأخير هو الذي يتبناه المازري كما يبين ذلك قوله في " بيان مراد الشرع بصيغ نافية لذوات واقعة " ومعلوم من قوله تعالى:"حرمت عليكم امهاتكم" أن نفس الأم لا يحرم، والمحرم معنى آخر غير ذلك، فالمنطوق به غير مراد، والمراد غير منطوق به".

أما اللامشي الحنفي فصاغ المسألة تحت عنوان:" مسألة الأعيان توصف بالحل والحرمة ونحوهما حقيقة أو مجازا"، وذكر الخلاف فيها، فبين أن المعتزلة يقولون:" ان الأعيان توصف بالحل والحرمة مجازا وإنما الحل والحرمة والوجوب ونحوها أوصاف الأفعال حقيقة"، بينما ذهب مشايخ الحنفية إلى القول بعدم الفرق بين الأعيان وأوصاف الأفعال في ذلك، بحيث إن الأعيان توصف بالحل والحرمة حقيقة كما ان الأفعال توصف بها حقيقة. يقال: فعل حرام، أي منع عنا تحصيله  واكتسابه، وعين حرام، أي منع عنا التصرف فيها[8].
يتفق المالكية إذا، على أن المعنى المراد من هذه الآية وأشباهها مما يندرج ضمن التحليل والتحريم المعلق في ظاهره بالأعيان معلوم قطعا ومقصود قطعا بوضع اللسان وعرف التخاطب وإن لم يكن منطوقا به، ولا حاجة إلى ادعاء الإجمال في الأية ولذلك أدرجها ابن رشد ضمن ما دل بمفهومه من جهة الحذف نصا.


كما ان المازري في تقسيمه الخطاب الشرعي يدرج " ما يعلم المراد به بظاهر الخطاب وفحواه ووضع اللسان" ضمن قسم النص غير المحتمل، ويعرفه بقوله: "ما يعلم المراد به بظاهر الخطاب وفحواه ووضع اللسان، ويدرك ذلك كل متكلم باللغة وعالم بمعنى المواضعة"[9].
وقد تضاربت أقوال القاضي أبي يعلى وتناقضت في الحكم على قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ "وقال تعالى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُ۬لْمَيْتَةُ "[10]حيث قال: إنها مبينة، وذلك عند كلامه عن البيان"[11]، ولما جاء إلى الكلام عن المجمل " قال: إنها مجملة. [12]


كما ذكر في موضعين آخرين[13] آية "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُۥٓ أُمَّهَٰتُكُمْ "ﱠ وصرح فيهما أنها عامة، وهذا ينافي كونها مجملة، كما ذكر آيةﱡ" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُ۬لْمَيْتَةُ "ﱠ وصرح بأنها عامة[14] ، وهذا ينافي كونها مجملة أيضًا[15].
                                                                                                                                                                                                                                                                                        

القسم الثاني: ما هو من هذا الجنس كالظاهر، ومثاله قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام ". فإنه محتمل أن يريد لا صيام كامل ويحتمل أن يريد انتفاء قبول الصيام أصلا وهو الأظهر.

القسم الثالث: ما يظن به مجملا، ومثاله

قوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، فإنه متردد يين إدراك فضيلة الصلاة أو حكمها أو وقتها.
وقد ألحق بعض العلماء هذين النوعين اللذين ذكرهما ابن رشد بالمجمل، وهما: ما هو من جنس المحذوف كالظاهر، وما يظن انه مجملا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صيام لمن لم يُبيت الصيام من الليل".
وهذه الأحاديث وأشباهها مما يبتدئ بأداة النفي"لا"، أطلق عليها الباقلاني" اللفظ المنفي عينه وهو موجود ثابت"، وأدرجه تحت عنوان: ما يلحق بالمجمل وليس منه.

يقول الباقلاني:"ومما ألحق - أيضًا - بالمجمل وليس منه في شيء، قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يُبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي". و"لا صلاة إلا بطهور" وفاتحة الكتاب "ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"[16] "ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وأمثال هذا مما في اللفظ نفي عينه وهو موجود ثابت، لأن معنى هذا الكلام مفهوم في عرف اللغة والاستعمال قبل الشرع والرسالة، لأنهم إذا قالوا لا علم إلا ما نفع، ولا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله، عُلم بذلك أنهم يعنون لا علم نافع إلا ما أفاد، ولا حكم واجب لازم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله تجب وتلزم. هذا مفهوم عند جميع أهل اللغة، ومن عرف كلامهم قبل ورود الشرع وبعده فوجب حمل الكلام عليه، وخرج بذلك عن حد الإجمال، ووجب أن يكون المعقول من قوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" أنه لا صيام مجزئ مجدٍ نافع إلا ما كان كذلك، ولا صلاة نافعة مجزئة، ولا وضوء نافع مجدٍ مجزئ إلا ما كان كذلك. وقد ثبت أن العمل كله من هذه الأجناس وغيرها لا يكون نافعًا مجديًا من جهة العقل، ولا يحصل عليه ثواب ونفع إلا من جهة الشرع وحكم السمع. فكأنه قال صريحًا عليه السلام: لا عمل مجدٍ للثواب والنفع إلا ما كانت هذه حاله، فوجب أن يعقل من هذا النفي نفي كون العمل شرعيًا مكتسبًا للثواب ومعتدًا به[17].

ورد الباقلاني على دعوى الإجمال في هذه الصيغ بقوله:" فأما أن لا يفهم منه معنى، أو يفهم منه نفي ذات العمل الواقع المذكور، فإنه قول باطل[18] لأن معناه مفهوم بعرف الاستعمال، وفساد نفي وقوع العمل معلوم بنفي الكذب والخلف عن قول الرسول عليه السلام.

ومع هذه فإنه قد يجوز أن يكون في هذا الخطاب إجمال واحتمال من غير هذا الوجه الذي ظنوه، وهو تردده بين نفي شيئين يصح القصد به إلى كل واحد منهما بدلًا من الآخر، وهو أن يكون أراد بقوله "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" شرعي مجدٍ مجزئ معتد به لصاحبه. ويجوز أن يكون أراد لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل كامل فاضل وإن كان شرعيًا مجزئًا ومعتدًا به، إلا أنه غير كامل وفاضل. وعلى هذا يجب حمل قوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" لأنه احتمل نفي الإجزاء والاعتداد وأن تكون شرعية بوجه ما. واحتمل أن يكون قُصد به نفي الفضل والكمال فحمل على ذلك. ولولا أن الدليل أوجب حمله على أحد الوجهين لوجب الوقف في المراد به من نفي حكم الشرع".


"وكذلك، فلولا أن الدليل قد قطع على أنه لا صلاة مجزئة بغير طهور ونية وقراءة فاتحة الكتاب لجاز أن يريد بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" لا صلاة فاضلة وكاملة وإن كانت شرعية مجزئة. وقد أوضحنا من قبل وجه إحالة دعوى العموم في نفي الحكمين أعني الإجزاء والكمال لموضع ما في ذلك من التناقض والتضاد، لأن النفي لكونها مجزئة ومعتدًا بها ينفي كونها شرعية، والنفي لكونها كاملة فاضلة فوجب كونها شرعية معتدًا بها، وذلك متناقض محال أن يراد باللفظ عموم أمرين متناقضين أو أمور متناقضة، ولذلك لم يصح حمل القول: أي شيء يحسن زيد؟ على الاستفهام والتفخيم والتعظيم. وقوله تعالى: ﱡ" وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْۖ ﱠ[19]. على الإباحة والندب والإيجاب، وإن صلح استعماله في كل شيء من ذلك على البدل لموضع تضاد محتملاته وتنافيها"[20].

نجمل تقسيم ابن رشد للألفاظ في الآتي:

ينقسم اللفظ الظاهر عند ابن رشد إلى:

- دال بالصيغة والمنظوم، وينقسم إلى الألفاظ المستعارة، والألفاظ المبدلة، وحكم  هذين القسمين، إما الحمل على الظاهر، أو التأويل بالحمل على اللفظ المستعار.

وتنقسم الألفاظ المبدلة إلى: كلي عام، وجزئي خاص.

- دال بمفهومه من أجل الحذف، وهو الدال دلالة اقترانية، لذلك فهو ينقسم بالنظر إلى القرينة؛ فإن كانت القرينة قطعية فهو النص، وإن كانت ظنية فهو الظاهر، وإن كانت ظنية غير مترجحة فهو المجمل.

وننتقل إلى تقسيم الأبياري، وهو، وإن كان يشبه تقسيم ابن رشد من حيث العنوان والجملة، فهو مختلف عنه من حيث بعض التفاصيل، فلذاك حسن إفراده بمطلب مستقل.

يتبع


المصادر والمراجع المعتمدة:


- القرآن الكريم
- السنة النبوية المطهرة
- الضروري في أصول الفقه
- التقريب والإرشاد، 
- إيضاح المحصول،
 - بيان كشف الألفاظ،
 - العدة في أصول الفقه، .
[16] - فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه». فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه». قيل: فقد سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن هذا، فقال: لا أعلم حديثاً إسناده جيد.
ونقول أيضاً: فقد ذكرنا ما هو أخص من خبرهم، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام -: - «من توضأ وذكر اسم الله كان طهوراً لجميع أعضائه»، فعلمنا بهذا أن طهارة أعضائه قد حصلت، وأن الذي ذكره من التسمية للكمال، فكأنَّه قال: لا وضوء كاملاً، كما قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، و «لا إيمان لمن لا أمانة له».عيون الأدلة، 1/95-96.
 - التقريب والإرشاد،1/381-382.
[18] - والقاعدة كما قرر الباجي في الإحكام: إذا فهم المراد من اللفظ خرج من جملة المجمل ولحق بالمفصل"

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة مقاصد
تصميم : معاد برادة