الترف هو الإقبال على
شهوات النفس ولذائذها الدنيوية، والتنعم بها، والتنكب بها عن سواء السبيل إلى
سوء السبيل. قال ابن الجوزي في قوله
تعالى: "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين"[1]
أي:" متنعمين في ترك أمر الله، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبد"[2].
الترف هو الإقبال على
شهوات النفس ولذائذها الدنيوية، والتنعم بها، والتنكب بها عن سواء السبيل إلى
سوء السبيل. قال ابن الجوزي في قوله
تعالى: "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين"[1]
أي:" متنعمين في ترك أمر الله، فشغلهم ترفهم عن الاعتبار والتعبد"[2].
باستقراء نصوص الشرع
يتبين بجلاء قصد الشارع إلى ذم الترف والبذخ، لذلك وجدناه يسد كل طريق يؤدي إلى
التعمق، ويذم المتعمقين الذين ركنوا إلى الدنيا واطمأنوا بها" إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين
هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون"[3].
وقد عد القرآن الكريم الترف وبطر العيش طريقا
إلى هلاك القرى والأمم، قال الله تعالى:" وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها" [4].
وقرن الله سبحانه
وتعالى الترف بأعظم الذنب وهو الشرك بالله، فقال تعالى عن الكفار:"إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم[5].
ومن فقه الإمام ابن
تيمية أنه ذكر هذه الآية في معرض الإجابة عن فتوى مستفت"عن المتنزه عن
الأقمشة الثمينة مثل الحرير والكتان المتغالى فى تحسينه وما ناسبها. هل فى ترك ذلك
اجر أم لا؟...فأجاب:الحمد لله رب العالمين، أما ما حرمه الله ورسوله كالحرير فإنه
يثاب على تركه كما يعاقب على فعله، وثبت عن النبى أنه قال:"من يلبس الحرير فى
الدنيا لم يلبسه فى الآخرة" وقال عن الحرير والذهب:"هذا حرام على ذكور
امتى حل لإناثها"، وأما المباحات فيثاب على ترك فضولها وهو ما لا يحتاج
إليه لمصلحة دينه، كما ان الإسراف فى المباحات منهى عنه كما قال تعالى:"والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما"[6].
وقال تعالى عن اصحاب النار:"إنهم كانوا قبل
ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم"[7]".
وإنما نهى الرسول صلى
الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار في أصول عاداتهم لما فيها من مفاسد الانغماس في
الترف، والإغراق في اللذائذ الدنيوية الدنية، والانسلاخ عن التفكير في الآخرة. وهو
ما يوضحه الدهلوي بقوله:"مخالفة الأعاجم فيما اعتادوه من الترفه البالغ
والتعمق في الاطمئنان بالحياة الدنيا فأنساهم ذكر الله وأوجب الإكثار من طلب
الدنيا وتشبح اللذات في نفوسهم فيجب أن يخص رؤوس تعمقاتهم بالتحريم
كالحرير..والثياب المصنوعة فيها الصور، وأواني الذهب، والفضة..ونحو ذلك. وأن يعم
سائر عاداتهم بالكراهية، ويستحب ترك كثير من الإرفاه"[8].
وابن خلدون يعي تماما هذه الحقيقة القرآنية، لذا فهو يخصص للحديث عن الترف ومفاسده
وعوائده وتوابعه ولواحقه مساحة كبيرة في المقدمة، ويجعل الترف من عوامل نهاية
الدول ومعاول هدم الحضارات.
وهذه بعض مفاسد الترف ومضاره على الضروريات
والكليات كما يراها ابن خلدون.
*الترف مفسد للخلق والعرض والدين:
هذا ما يقرره ابن خلدون في النص التالي:"
وأيضا فالترف يفسد الخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة
وعوائدها..فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه، ويتصفون
بما يناقضها من خلال الشر فتكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك
في خليقته. وتأخذ الدولة مبادئ العطب، وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من
الهرم إلى أن يقضي عليها"[9].
ا
الفساد الخلقي والاجتماعي نتاج طبيعي للترف،
ويتعدى الأمر فساد الأخلاق إلى انتهاك الأعراض إما بفاحشة لزنا أو باللواط وهو
أفحش، وكلاهما يؤدي إلى إفساد النوع، وإن كان ابن خلدون يرى أن إفساد النوع
باللواط أشد من إفساده بالزنا مؤيدا رأي الإمام مالك ومرجحا له بقوله أنه"
أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح"[10].
وسبب هذا التفنن في المفاسد هو الترف الذي
يعتبر إيذانا نهاية العمران، "فإنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في
الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف
هي عين الفساد"[11].
ومن الأخلاق المذمومة
التي يشيعها الترف، الشر والسفسفة والتحيل في تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه،
والمقامرة والمجاهرة بالفسق، والجرأة على الكذب والغش والخلابة والسرقة والفجور في
الأيمان والربا في البياعات.. واطراح الحشمة في الخوض في الفسق ودواعيه..والمكر
والخديعة، وغلبة أخلاق الجواري...[12].
شيوع السرف والترف، وفساد الأخلاق، وكساد
الأسواق، وتدني الأذواق، مؤد إلى فساد الأحوال الدنيوية والعمرانية والدينية،
والنتيجة الحتمية لهذا الوضع نهاية العمران، "وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال
المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا
يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فلاستحكام صبغة
العوائد التي يعسر نزعها؛ وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمئونات التي تطالب بها
العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها"[13].
وعندما تستحكم العوائد
وتستفحل، يفقد الإنسان استقامته ومقدرته على التمييز بين ما يصلح لمدينته وما يضر
بها، وإذا فقد هذه الخصائص فقد معها إنسانيته والغاية من وجوده، وفقد مؤهلات
الاضطلاع بمهمة الاستخلاف."لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب
منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك. وإذا فسد الإنسان في قدرته
ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة"[14].
يقيد جلب المصالح ودفع المفاسد بالاستقامة
الدينية والخلقية، ويعتبر هذا التقيد من خصائص إنسانية الإنسان. فما السر في هذا
التقييد بالاستقامة؟.
استقامة الأخلاق وأخلاق الاستقامة:
الاستقامة مفهوم قرآني
جامع لكل الفضائل الإنسانية، مثل مفاهيم التقوى ومقوم أساسي من مقومات الشخصية المسلمة، كما يشير إلى
ذلك الدكتور حسن الترابي بقوله:" وقوام المنهجية الإسلامية ثانيا العدل
والاستقامة والقصد والتوازن بلا إفراط أو غلو أو شطط في الاستقطاب بين الفرد
والمجتمع او المجتمع والسلطان، وبين الإجمال والتفصيل أو التنظير والتطبيق أو
القطعية المزانة، وبين الظاهر والباطن أو الغيب والشهادة أو الوحي والعقل وبين
الطلاقة والنظام أو الشكل والجوهر ونحو ذلك مما يبدو متباينا في نظر الإنسان ومما
يهدد بأن يفرق حياته ويشققها"[15].
ولا تذكر الاستقامة إلا مقرونة بالإيمان بالله
تعالى وبوحدانيته وربوبيته، قال تعالى:"إن الذين قالوا ربنا لله ثم استقاموا"[16]،
ومن وصايا الرسول الكريم:"قل آمنت بالله ثم
استقم"[17]واقترنت الاستقامة بالاستغفارفي قوله تعالى:" فاستقيموا إليه واستغفروه"[18].
ومما يبين أهمية الاستقامة وعمومها وشموليتها
اقترانها بالإيمان بربوبية الله، وبألوهيته، وبالاستغفار، وبنبذ الطغيان. وهي كما
ترى خصائص كبرى، وقيم عظمى. في هذه النصوص إشارة واضحة إلى أن قيمة الاستقامة شاملة لاستفامة الدين
والمنهج والفكر(قالوا ربنا الله)، واستقامة الخلق(الاستغفار)، واستقامة العمران
والحياة(ولا تطغوا). أضف إلى هذا أمر الله جل وعز أفضل خلقه محمد صلى الله
عليه وسلم وخير القرون بالاستقامة، قال جل وعلا: "فاستقم كما أمرت
ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير"[19]،
حتى إنه صلى الله عليه وسلم قال: "شيبتني هود وأخواتها من المفصل"[20].
وكأني بابن خلدون في
هذا المقام، يستحضر أمامه هذه الآيات من سورة هود :" فاستقم كما أمرت ومن
تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار...فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد إلا قليلا ممن
أنجينا منهم. واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين"[21]،
ويقوم بتحليلها وتفسيرها تفسيرا اجتماعيا راقيا، يدل على قدرته الفائقة في الغوص
في أعماق النصوص، واستبيان حقائقها، واستكشاف أسرارها، من خلال الربط بالواقع. قهي
آيات جامعات، وهي أشق آية على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهي التي شيبته بما
حوته من معان جليلة،
في عبارات قليلة. ففيها:" الحض على الدوام على التمسك بالإسلام على
وجه قويم. والدوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر
من تغييره.
...و"الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر.
-فقوله تعالى:(فاستقم كما أمرت) أصول الصلاح الديني وفروعه.
-كما أن قوله(ولا تطغوا) قد شمل أصول
المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودرء المفاسد، فكان النهي
عنه جامعا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد
خليطه فهو المنهى عنه بقوله بهد هذا (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).
-و(الذين ظلموا) هم المشركون. وهذه الآية أصل في سد
ذرائع الفساد المحققة أو المظنونة"[22].
وعن الحسن البصري: (جعل الله الدين بين لاءين )ولا تطغوا ولا
تركنوا.
ولما كانت الاستقامة
تعني الاعتدال وتحققه، فغن الله عز وجل قرنها بما يضادها ويكر عليها بالإبطال
والاعتداء، ألا وهو الطغيان، فالاستقامة نقيض الطغيان لأن الطغيان تجاوز للحد
وعدوان،"والاستقامة اعتدال على جادة الحق دون العدول عنها"[23]إلى
التفريط والنقصان أو الإفراط والطغيان.
والاستقامة عند العلامة
ابن عاشور رديف العدالة، وهي المقصد الأسمى الذي جاء الدين لترسيخها في النفوس،
وهي تعني إقامة كل أمر يحقق مصلحة شرعية عاجلة أو آجلة بعيدا عن أهواء الناس، جاء
في أصول النظام الاجتماعي:"فوظيفة الدين تلقين أتباعه لما فيه صلاحهم عاجلا
وآجلا مما قد تحجبه عنهم مغالبة الأميال وسوء التبصر في العواقب، بما يسمى
بالعدالة والاستقامة"[24].
وإنما قرن الذكر الحكيم الاستقامة بالنهي عن
الطغيان دون النهي عن النقصان، لأن"الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من
تحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر"[25].
والترف أكبر طغيان يعرفه العمران البشري، وهو
ركون وارتكان إلى سبيل الظلمة المفضي إلى النار، وقد كان ابن خلدون حكيما عندما
قيد سعي الإنسان لجلب مصالحه ودرء مفاسده باستقامة خلقه، لأن الإنسان قد تطغى عليه
أنانيته وحبه لمصالح نفسه الأمر الذي يدفع به إلى العدوان على الحدود والحقوق من
أجل تحصيل أغراضه ومنافعه.
والترف عند ابن خلدون مرادف الحضارة، لذلك
نجده يقرن بينهما كما في قوله:" فلنعلم أن الحضارة في العمران كذلك ، لأنه
غاية لا مزيد وراءها وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى
مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة كما علمت في التفنن في الترف واستجادة
أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه"[26].
فالحضارة ما هي إلا عظم الثروة، وكثرة الغنى، وتزايد عوائد الترف ومذاهبه،
واستحكام الصنائع في سائر فنون الترف"[27].
وهكذا ينجلي أمام بصرك،
ما يترتب عن الترف من فساد وركون[28]
إلى سبيل الظلمة، والاقتداء بهم وموافقتهم في تعمقاتهم وكل تعلقاتهم، مما يتحقق
معه-لامحالة-الطغيان المادي، والإجرام الخلقي، والفساد العمراني.
*الترف مفسد للعقل والمال:
ثم إن عوائد الترف قد تفسد العقل والفكر، وإذا
فسد العقل فسد السلوك، فيتعلق المرء بوساوس الأوهام، الأمر الذي يفضي به إما إلى
العجز عن طلب المعاش بالكلية، وإما إلى الخنث والتواكل في ذلك على الغير، وإما إلى
طلب المعاش من غير وجوهه الطبيعية المعروفة فيقع الانحراف الكسبي، أي كسب المال
بالطرق المنحرفة والوسائل الوهمية كابتغاء المعاش من الدفائن والكنوز، وهذا جاء في
المقدمة في بيان الحامل على ذلك:"والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف
العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح
والصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة، وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله،
عجزا عن السعي في المكاسب وركونا إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله
واكتسابه، ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه، في نصب ومتاعب
وجهد شديد أشد من الأول...وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده
وخروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه، ولا تفي بمطالبها"[29].
نفس المعنى يؤكده ولي الله الدهلوي-سيرا على
خطى ابن خلدون-بقوله:"وكذلك من مفاسد المدن أن ترغب عظماؤهم في دقائق الحلي
واللباس والبناء والمطاعم وغيد النساء، ونحو ذلك زيادة على ما تغطيه الارتفاقات
الضرورية التي لابد للناس منها...فيكتسب الناس بالتصرف في الأمور الطبيعية لتتأتى
منها شهواتهم..."[30].
*الترف مورث لعوائد فاسدة:
من مفاسد الترف أيضا، الوقوع تحت أسر العوائد،
والاستسلام لسلطانها، وتلبس العباد بـ"هيئات الجبن والكسل بما يعانونه من خنث
الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية"[31]،
إلى أخلاق الجواري حتى إن كثيرا من" المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون
عاجزا عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ من يتولى ذلك له ويقطعه عليه
أجرا من ماله، وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان، إذ الثقة
بكل أحد عجز، ولأنها تزيد في الوظائف والخرج وتدل على العجز والخنث..."[32].
هذا
الخنث تنتقل عدواه إلى الجيل الناشئ، الذي يألف بدوره الراحة والكسل والعجز عن
مباشرة شؤونه، فيصير عالة على المجتمع، كلا أينما توجهه لا يأتي بخير، وفي هذا
يقول ابن خلدون:" وإذا اتخذوا الدعة والراحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة
وجبلة، شأن العوائد كلها وإيلافها، فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد
الترف والدعة"[33].
العوائد إذا انطبعت في النفس الإنسانية وأشرب
الناس في قلوبهم حبها، انعكست سلبا أو إيجابا على أخلاقهم وسلوكياتهم، وأصبحت خلقا
وجبلة. وهذا المعنى هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[34].[35]"
لأن تمام الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر"[36].
ولهذا كان أهل الحضارة أغرق في الترف والبذخ،
وأعرق في الفساد، وذلك بسبب إلف العوائد القبيحة وتلون نفوسهم وتلوثها بها. جاء في
المقدمة:" وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال
على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق
والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم
مذاهب الحشمة في أحوالهم؛ فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم
وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عنه
وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولا وعملا"[37]
*الترف مخل بميزان الأولويات:
من أخطر الأمراض الاجتماعية التي قد تصيب
الأفراد اتباع الأهواء والشهوات والوقوع تحت إلف العوائد الفاسدة، لذا كان من أعظم
مقاصد الشارع إخراج المكلف عن عبودية أهوائه المتقلبة إلى اتباع الهدى الثابت ،
قال تعالى:"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن
فيهن"[38]. "ومن أضل ممن
اتبع هواه بغير هدى من الله"[39].
والعوائد الفاسدة شر
الأهواء والأدواء، التي تنتج عن الترف والسرف وقد أدرك ابن خلدون ما لرسوخ العوائد واستحكامها في النفس من مخاطر على الدين والدنيا، من ذلك اختلال ميزان الأولويات،
حيث تنقلب الحاجيات ضروريات، لأن العوائد عندما تملك أهل المصر تستعبدهم
فيطيعونها، " وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف، وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو
إليها، فتنقلب ضرورات، وتصير الأعمال كلها مع ذلك عزيزة، والمرافق غالية بازدحام
الأغراض عليها من أجل الترف"[40].
فمتى بلغ الإنسان في الترف الغاية، صار حاله
إلى الإخلاد إلى العوائد و"طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان
كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها"[41].
ولو اعتدل في استمتاعه لكان خيرا له وأقوم،"ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه[42]".
ومن الأمثلة التي يضربها ابن خلدون لسطوة
العادة وسلطتها، مسألة تعود الطعام أو الجوع، فالنفس وما تعتاد عليه، فإذا اعتادت
النفس المترفة المترفهة وسائل الرفه والزينة والشبع صعب فطامها عنها :"
والسبب في ذلك العادة، فإن النفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وطبيعتها لأنها
كثيرة التلون، فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج والرياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعية
لها...
وأما إذا كان ذلك القدر(أي مقدار
الطعام المراد قطعه) تدريجا ورياضة بإقلال الغذاء شيئا فشيئا، كما يفعله المتصوفة
فهو بمعزل عن الهلاك، وهذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة"[43].
يبين ابن خلدون أن العوائد تترسخ بشكل تدريجي
وليس دفعة واحدة، وإذا كان رسوخها بالتدريج وجب أن يكون فسخها ونزعها بالتدريج
أيضا، تماما مثلما يفطم الطفل عن الرضاع الذي ألفه لفترة طويلة تدرجا.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن
الترفه ليس محظورا كله فثمة الترفه المحمود" الذي يصح به المزاج، ويستقيم به
الأخلاق، ويظهر به المعاني التي امتاز بها الآدمي من سائر جنسه"[44]،
وهناك الترفه المذموم" لاحتياجه إلى منازعات ومشاركات وكد وتعب وإعراض عن
جانب الغيب وإهمال لتدبير الآخرة، ولذلك كان المرضي التوسط وإبقاء الارتفاقات وضم
الأذكار معها والآداب"[45].
*الترف مخرج عن القصد والوسطية:
الترف مؤد إلى السرف ضرورة، وبيان هذه الحقيقة
أن المترف لكي يحصل على الكماليات الزائدة على الضروري، والتي ألفها بفعل عوائد
الترف وأحواله التي لم تعد قادرة على الوفاء بمتطلباته المتزايدة، ولم يعد هو
قادرا على التخلص منها فيزداد تصميمه عليها ولو أدى به ذلك إلى الحرام فتتفاقم
النفقات "وتخرج عن القصد إلى الإسراف، ولا يجدون وليجة عن ذلك، لما ملكهم من
العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة
ويغلب عليهم الفقر، ويقل المستامون للمبايع، فتكسد الأسواق ويفسد حال المدينة، وداعية
ذلك كله إفراط الحضارة والترف، وهذه مفسدات في المدينة على العموم
في الأسواق والعمران"[46].
الترف
طغيان، يؤدي إلى تفكك المجتمع والعمران، والوسطية هي المخرج والمخلص من ظاهرة
الترف، فهي مقصد مهم من شأنه أن يقود الجماعات المترفة إلى تعديل ارتفاقاتها،
وإعادة ترتيب أولوياتها، بشكل يراعي مصلحة المجتمع ككل، ويحفظ المجتمع والفرد
والدولة من التفكك والدمار وخراب العمران. يقول الدكتور ملحم قربان:" وهكذا
تشارك قاعدة الاعتدال مع قانون العدالة في إقامة المجتمع الفاضل، ثم تلعب دورا
حيويا في توجيه الإنسان، ليتصرف التصرف الذي يؤمن له تحقق المكاسب الدنيوية
والمكافآت الأخروية، وهكذا يكون، وبفضل اهتمامه بهذه القاعدة، قد كسب الدنيا
والآخرة معا: قد أرضى دينه ودنياه"[47].
[1.القرآن الكريم
[2] - زاد المسير، ابن الجوزي.
[3]- كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه.
[4]- حجة الله البالغة . ولي اله الدهلوي
[5]- المقدمة. ابن خلدون
[6]- قضايا التجديد؛ نحو منهج أصولي، الدكتور حسن الترابي.
[7]- صحيح ابن
حبان، باب ذكر ما يجب على المرء من سؤال الباري تعالى الثبات والاستقامة على ما
يقربه إليه بفضل الله علينا بذلك، حديث رقم942. 3/221. وفي الحديث عن سفيان بن عبد
الله الثقفي قال قلت: يا رسول الله قل لي قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال:" قل
آمنت بالله ثم استقم".الجامع، معمر بن راشد الأزدي، باب الإيمان والإسلام،
11/128. شرح النووي على صحيح مسلم، ، باب جامع أوصاف الاسلام، قوله قلت يا رسول
الله قل لي في الاسلام قولا لا أسأل عنه غيرك قال: "" قل
آمنت بالله ثم استقم".الجامع، معمر بن راشد الأزدي، باب الإيمان والإسلام،
11/128. شرح النووي على صحيح مسلم، ، باب جامع أوصاف الاسلام.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق