بتتبع التطور الدلالي لمفهوم أصول الفقه أمكن تحديد خمس تحديدات:
أصول الفقه: أدلته. انصب هذا التحديد بالأساس على الجانب الموضوعي لأصول الفقه.
اتجاه آخر يرى بأن أصول الفقه هي العلوم التي هي أصول العلم بأحكام أفعال المكلفين، بدأ في القرن الخامس مع الباقلاني ت403هـ، الذي وسع مفهوم أصول الفقه لتتعدى الأصول والأدلة التي جعلها الاتجاه الأول محورا للدرس الأصولي، إلى العلوم التي هي أصول أصول للفقه.
التطور الدلالي لمفهوم أصول الفقه
أصول الفقه: أدلته
انصب هذا التحديد بالأساس على الجانب الموضوعي لأصول الفقه، وهذا قطعا شأن كل علم يكون في طوره التأسيسي، بحيث يصبح الواضع محكوما بهاجس التأصيل لمباحث العلم ومسائله، والتقعيد للقواعد والأصول التي ستتشكل محـــور اهتمامه، فمن ثم يمكن تسمية هذا الاتجاه بالاتجاه الموضوعي.
بدأ هذا التوجه التأسيسي في أوائل القرن الثالث مع الإمام الشافعي(ت204هــ) الذي يظهر من سياق كلامه في الرسالة حصر أصول الفقه في الاستدلال بالأدلة السمعية الأربعـة، وممن تبنى هذا الاتجاه الشاشي والجصاص من الحنفية ، والجويني والشيرازي من الشافعية، وابن العربي من المالكيـة.
كما ذكر الشاشي أن أصول الفقه: طريق استنباط وتخريج الأحكام من خلال الأدلة الأربعة، وافتتح الجصاص فصولــــه في الأصول بقوله:" فهذه " فصول وأبواب في أصول الفقه. تشمل على معرفة طرق استنباط معاني القرآن، واستخراج دلائله، وأحكام ألفاظه، وما تَتَصَرَّف عليه أنحاء كلام العرب، والأسماء اللّغويّة، والعبارات الشّرعيّة"، وهذا التعريــــف يحصر أصول الفقه في: طرق الاستنباط من القرآن الكريم، وهو وإن لم يذكر إلا الاستنباط من القرآن الكريم دون سائر الأدلة، فذلك لأن القرآن الكريم مستند باقي الأدلة، وأصل سائر الأصول.
وذهب الجويني وابن العربي المالكي إلــــى أن أصول الفقه: أدلته، وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية وأقسامها نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع ومستند جميعها قول الله تعالى".
وقال ابن العربي:"أما أصوله فهي أدلته، وَقد قيل معرفة أحكام أفعال المكلّفين الشرعِية دون العقليـــــــة وهي تكملة للأول وقريب منه".
وَهؤلاء عرفوا أصول الفقه بالِاعْتِبَار الثَّانِي، أي من جهِة تفصيل كل واحد من مفرداته، لأن المادَّةَ التي تَركّبَ منها لفظ أصول الفقه، هي الأصول وَالفقه، فهما مفردا ذلك المركّب، فيحتاج في تعريفه التفصيلي إلى تعريف كل واحد منهما عَلَى حِدَّتِهِ.
فالأصول: الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما في خلال ذلك من القواعد الأصولية.
اضغط لمتابعة القراءة:
بدأ هذا الاتجاه في القرن الخامس مع لسان الأمة الباقلاني ت403هـ، الذي وسع مفهوم أصول الفقه لتتعدى الأصول والأدلة التي جعلها الاتجاه الأول محورا للدرس الأصولي، إلى العلوم التي هي أصول أصول للفقه.
وإذا كان الإمام الشافعي يعد المؤسس الأول لــ"أصول الفقه"، فإن وبالتالي فإن الباقلاني، من وجهة نظرنا، يعتبر المؤسس الأول لــ"علم أصول الفقه"، بحيث يعتبر هذا الاتجاه اللبنة الأولى في اتجاه التحول من "موضوعية" الأصول إلى "علمية" الأصول، لذلك يمكن أن نسمي هذا الاتجاه بالاتجاه العلمي المنهجي.
بتوسيعه مفهوم الأصول سيدشن الباقلاني مرحلة "علمية العلم"؛ ذلك أن علم أصول الفقه لن يصبح مقتصرا فقط على الأدلة والأحكام، بل سيشملهما كما يشمل غيرهما، فهو علم يشمل كل العلوم التي تبنى عليها العلوم بالفقه، وهي العلوم التي يستمد منها كالكلام والعربية والفقه والحجاج والجدل والاستدلال، وأصول العلم بهذه العلوم هي الأدلة التي يتوصل بالنظر فيها إلى العلم بأحكام أفعال المكلفين.
ممن تبنى الاتجاه العلمي لعلم أصول الفقه، عالم مالكي كبير، وهو الإمام الباجي (474ه)، الذي حد الأصول بانها "ما انبنت عليه معرفة الأحكام الشرعية".
قد يبدو التقارب بين تحديد الباجي للأصول وتحديد شيخه الإمام الشيرازي (ت 476هـ) للأصول بأنها "الأدلة التي يبنى عليها الفقه وما يتوصل به إلى الأدلة على سبيل الإجمال. وأن ما يتوصل به إلى الأدلة هو الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجهها وترتيب بعضها على بعض. إلا ان الفرق بين التعريفين في بداية كل منهما، فقد استهل الباجي حده بـ"ما" فيما عبر الشيرازي ب"الأدلة"، والتعبير ب"ما" أوسع وأشمل من التعريف ب"الأدلة"، فيدخل في تحديد الباجي الأصول الأدلة وغيرها.
لا يقال بأن تعريف الشيء بــ «ما» قبيح أو غير صحيح؛ لأن لفظ «ما» شديد الإبهام، والمقصود من التعريف الإيضاح والإفهام. "فهذا كلام لا طائل تحته، لأن "ما" وإن كانت شديدة الإبهام، غير أَن التعريف ليس بها وحدها، بل بها وبما بعدها، وبمجموعهما يحصل الكشف عن حقيقة المحدود.".
ولندع إمامنا الباجي يفصل ما بعد "ما" التي استهل بها تعريفه،" فقد بين أنه يعني بتعريفه:" أن أصول الفقه غير الفقه، لأن الشيء لا ينبني على نفسه، وإنما ينبني على سواه مما يكون أصلًا له، ويكون هو مستنبطًا ومأخوذًا منه، ومتوصلًا إليه بذلك الأصل. وذلك أن معرفة أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والاستثناء والمجمل والمفصل وسائر أنواع الخطاب والنسخ والإجماع والقياس وأنواعه وضروبه وما يعترض به على كل شيء من ذلك وما يجاوب به عن كل نوع من الاعتراضات فيه، وتمييز صحيح ذلك من سقيمه مما يتوصل به إلى استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه. فكانت هذه المعاني أصولًا للأحكام الشرعية، لأنه لا طريق إلى استنباطها ومعرفة صحيحها من سقيمها إلا بعد المعرفة لما وصفنا بأنه أصل لها".
ولأن الأصل هو ما يبنى عليه غيره، فإن علم أصول الفقه يشمل كل المعاني التي تعتبر أصولا للأحكام الشرعية التي هي غاية هذا العلم ومبتغاه، ويبتنى عليها معرفتها. ويدخل في هذا العلم بأدوات العلم بهذه الأحكام ومتعلقاتها، والعلم بالاجتهاد ومتعلقاته، والعلم بالاعتراضات والأجوبة عنها.
خلافا للسابقين واللاحقين أيضا، الذين قصروا علم الأصول في ثلاثية: طرق الفقه المجملة لا طرقه المفصلة، وكيفية الاستدلال بها، وصفات المستدل بها وهو المجتهد، فإن القيمة المضافة التي ساهم بها الباجي، والتي ميزت تعريف أصول الفقه في هذا القرن، هي أنه نبه إلى أن العمارة الأصولية لا تكتمل إلا بإضافة ما يتعلق بالاستدلال والحجاج الأصولي وما يرتبط به من الااعتراضات والأجوبة عنها والردود عليها ؛ وهذه رؤية تجديدية نقدية تتغيى غربلة علم أصول الفقه ونخل ما يكتنف مسائله ومباحثه من استدلالات واهية وحجج ضعيفة، وبذلك يتحقق التمييز بين "العلوم التي هي أصول علم أصول الفقه"، وبين "الفهوم" والنقول التي هي اجتهادات بشرية في تلك العلوم.
وقريب من تعريف الباجي تعريف القاضي أبي يعلى(ت456هـ) فِي «الْعُدَّةِ» حيث قال:"أصول الفقه، عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه وتعلم أحكامها به، لأن أصل الشيء ما تعلّق به، وعرف منه، إما باستخراج أو تنبيه.
يميز صاحب "العدة" بين أدلة الفقه بما هي"عبارة عن استعمال ألفاظ العموم وطرق الاجتهاد"، وبين أصول الفقه باعتبارها كلاما في "ما يدل على إثبات مقتضى هذه الأشياء وموجبها وصحتها وفسادها".
وبهذه التفرقة يتمحض علم أصول الفقه عنده للإثبات أو النفي، أي إثبات صحة الاحتجاج بالألفاظ وطرق الاجتهاد، أو نفي ذلك. باختصار يمكن القول بان أصول الفقه عند أبي يعلى:" إثبات أدلة الفقه أو نفيها".
وهذا يقتضي الإلمام بالفروع الفقهية؛ لأنها شديدة التعلق بالأصول، وهذا صحيح، غير أن القاضي الحنبلي يرى أسبقية الفروع على الأصول، حيث يقول:" ولا يجوز أن تعلم هذه الأصول قبل النظر في الفروع؛ لأن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها، لا يمكنه الوقوف على ما يبتغي بهذه الأصول من الاستدلال والتصرف في وجوه القياس والمواضع التي يقصد بالكلام إليها".
إن القول بأسبقية الفروع على الأصول مخالف لجمهور الأصوليين، ومخالف لمفهوم علم الأصول وطبيعته، فقد ذكر في المسودة أن رأي ابن عقيل وغيره تقديم معرفة أصول الفقه أولى لبناء الفروع عليها، أما عند القاضي أبي يعلى تقديم الفروع أولى لأنها الثمرة المقصودة بالأصول؛ "فالفقيه حقيقة من له أهلية تامة يعرف بها الحكم إذا شاء بدليله مع معرفة جملة كثيرة من الأحكام الفرعية وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة".
وربما يكون قوله هذا ردة فعل تجاه الاشتغال الأصولي الكلامي لدى المتكلمين المعتزلة كأبي الحسين البصري، أو الأشعرية كالقاضي أبي بكر الباقلاني. لذلك يوجه نقده لهؤلاء الأصوليين المتكلمين، الذين يشهد لهم بالمعرفة بطرق الأصول وأدلتها، لكنه يرى أنهم دون ذلك في المعرفة بالفروع، وفي هذا يقول:" ولهذا يوجد أكثر من ينفرد بعلم الكلام دون الفروع مقصرًا في هذا الباب، وإن كان يعرف طرق هذه الأصول وأدلتها" .
في سياق تعريفه لأصول الفقه يسوق القاضي أبو يعلى كلاما يقول فيه "لأن أصول الفقه إذا كانت أصول الشرع، والأقوال في الشريعة هي أصول الفقه، والمعاني مفهومة بها، إما باستخراج منها أو تنبيه".
إن أصول الفقه تشمل، حسب أبي يعلى، أصول الشريعة المتمثلة في أصول الأدلة المتعارف عليها، كما تتضمن أقوال العلماء في تلك الأصول، وما يفهمونه من المعاني؛ أي الفهوم والمعاني التي تفهم بآليتي الاستنباط والتنبيه وغيرها من آليات الفهم والاستثمار التي يستمدهما الأصولي من علم أصول الفقه.
ثمة إذا: أصول الفقه؛ وهي أصول الشرع باعتبارها علوما، وأقوال العماء وآراءهم بما هي فهوما. وهذا يقتضي التمييز في أصول الفقه بين "العلم " و " الفهم "، أي الفصل بين علم أصول الفقه كعلوم كما أشار إلى ذلك الباقلاني والباجي، وأصول الفقه كفهوم كما أشار إلى ذلك القاضي أبو يعلى.
وهكذا يكون أبو بكر الباقلاني وأبو يعلى وأبو الوليد الباجي قد أطلقا شعار "علمية أصول الفقه"، وأسسا للمنهج النقدي بالتنبيه إلى أهمية الجانب الإبستمولوجي والمنهجي في علم أصول الفقه.
بناء على هذا التحليل يصبح من المجازفة بالقول بأن "الباجي- كأبي يعلى- يحصر الدرس الأصولي في بحث محله وموضوعه الأساس، من قواعد وأدلة يقوم عليها الاجتهاد الفقهي"، إلا بعد التحقيق والتدقيق. والله أعلم.
مدونة مفيدة وجميلة، وفقك الله تابع في النشر، نحن نتابعك
ردحذفأشكرك على الدعم والتشجيع وطيب المتابعة، وفقك الله
ردحذف