الاستدلال السببي وعلاقته بالمقاصد الشرعية
الاستدلال السببي هو أسلوب من الأساليب النوعية للتفكير الاستدلالي إلى جانب المماثلة والاستقراء. ويعرف بأنه: " استخدام الكلمات المنطقية بدقة في جمل وقضايا مختلفة باستخدام الاستنتاج في النموذج السببي إذا كان ...فإنه....ويقدم النموذج السببي الآلية لتفسير الأسباب والاعتبارات البديلة لموقف ما للخروج باستنتاجات جديدة"[1]. ....
يقول احد
الباحثين في مبينا الأساليب النوعية للتفكير
الاستدلالي وهي:
-
المماثلة:( (Analogy:
الاستدلال من خاص إلى خاص ويتم عن طريق إجراء مماثلة بين شيئين أو حالتين بينهما
أوجه شبه ويترتب على عملية المماثلة الوصول إلى نتيجة مفادها نقل حكم او وصف أحد
المماثلين إلى الآخر.
ويطلق
البعض على هذا الأسلوب الاستدلال التمثيلي ويعتبرونه شكلا من أشكال الاستدلال
الاستقرائي.
- التعميم
أو الاستدلال الاستقرائي ويقوم على التعدية والإلحاق: يقصد بالتعميم إدراك
الخاصية أو المبدأ المشترك في عدد من المواقف الخاصة المتنوعة بحيث ان الاستدلالات
الاستقرائية تسمح لنا ببعض الافتراضات والتعميم من المعلوم إلى المجهول من خلال
عدد من الأمثلة نصدر تعميما أو وصفا ينطبق عليها جميعا.
والأصوليون يتحدثون عن السبب في
مباحث الحكم الوضعي، فيذكرون أن أقسام خطاب الوضع هي: العلة والشرط والسبب والمانع[2].
والسبب في اللغة: عبارة عما حصل
الحكم عنده لا به. ومنه سمي الحبل والطريق سببا[3].
وقد استعار الفقهاء لفظة
"السبب" من هذا الموضع واستعملوه في أربعة أشياء: [4]
أحدها: بإزاء ما يقابل
المباشرة، كالحافر يسمى صاحب سبب، والمردي صاحب علة.
الثاني: بإزاء علة العلة،
كالرمي، يسمى سببًا.
والثالث: بإزاء العلة بدون
شرطها كالنصاب بدون الحول.
والرابع: بإاء العلة نفسها.
وإنما سميت سببا وهي موجبة؛ لأنها لم تكن موجبة لعينها، بل بجعل الشرع لها موجبة،
فأشبهت ما يحصل الحكم عنده لا به.
والاستدلال السببي نوع من
الاستدلال المقاصدي، لأنه ربط الأحكام بمقاصدها، والأسباب بمسبباتها، ففي مجال
الأحكام الوضعية(خطاب الوضع)، نجد أن للأحكام أسبابها المقتضية لها ومسبباتها أي
عللها وحكمها ومقاصدها المترتبة عليها، ومثال ذلك السفر فإنه مظنة(سبب) المشقة،
والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة أي أن الحكمة من الترخيص وجود المشقة،
فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم إلا إذا قامت المظنة وهي السبب مقام الحكمة[5].
ويمكن تبين تعلق الاستدلال
السببي بالمقاصد من خلال القواعد التالية:
-
ما كان
من أسباب الدنيا وعلائقها الشاغلة عن العبادة ينبغي التخلص منه.
حكى ابن العربي اختلاف العلماء
في أفعال الصلاة الواقعة في حال شرود النية إلى الخواطر المسترسلة وعزوب الفكر عن
الحضور بين يدي الله تعالى هل تكون مقبولة معتداً بها أم لا؟.
فذهب الفقهاء إلى أن ذلك مجزٍ عنه معتدّ به، ورأى
بعض الزهّاد أنه لا يعتدّ بها ولا يكتب له أجرها.
وأورد أثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم:
-أحدهما: "أنَّ
الرَّجُلَ لَيصَلّي الصَّلاةَ فَيُكْتبُ لَهُ نِصفُهَا ثُلُثُهَا رُبْعُهَا حَتَّى
ذَكَرَ عُشْرهَا"[6].
والحديث الثاني: "أَوَّلُ ما ينْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَل الْعَبْدِ الصَّلاَةُ فَإِنْ جَاءَ بِهَا نُظِرَ في سَائِرِ عَمَله وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يُنْظَرُ لَه في شَيْء"، ومن طريق أخرى يقول الله تعالى: انْظروا هَلْ لِعَبْدي مِنْ تَطَوُّعٍ فَكَلِّمُوا لَهُ بِهَا فَرِيضَتَه".
والحديث الثاني: "أَوَّلُ ما ينْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَل الْعَبْدِ الصَّلاَةُ فَإِنْ جَاءَ بِهَا نُظِرَ في سَائِرِ عَمَله وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يُنْظَرُ لَه في شَيْء"، ومن طريق أخرى يقول الله تعالى: انْظروا هَلْ لِعَبْدي مِنْ تَطَوُّعٍ فَكَلِّمُوا لَهُ بِهَا فَرِيضَتَه".
واختلف الناس في هذا التكميل؛ فمنهم
من قال: إن ترك العصر مثلاً وصلَّى أربع ركعات متنفّلاً جُبرت بها، ومنهم من قال: لا يرقع الجديد بالخرق. وهم أرباب
القلوب.
أما ابن العربي فإنه يميل إلى التفصيل في الموضوع، موظفا نظرته المقاصدية الثاقبة، معترفا بأولوية الاستدلال المقاصدي القائم على النظر إلى الأسباب، حيث يقول:"وهو الأولى بنا والأقوى في أدلتنا"، ومنبها إلى نكتة أصولية فرق فيها في عزوب النية بين ما إذا كان بسبب عارض في الصلاة، أو كانت بأسباب متقدمة من كسب المكلف.
فإن كان بأمر عرض في الصلاة،
وبسبب عارض، فالصلاة كلها مقبولة، من غير شك، إعمالا لقاعدة رفع الحرج عنا،
أما إن كان عزوب النية بأسباب
متقدمة قد لزمت العبد من الانهماك في الدنيا والتشبث بفضولها التي يستغنى عنها،
فيقوى ههنا ترك الاعتداد بالصلاة؛ لأن ذلك من قبله وسببه واقع باختياره.
وعضد ابن العربي هذا الحكم بفعل
النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، لما ألهته الخميصة عن لحظة في الصلاة أخرجها من
بيته وأسقط المنفعة بها أصلاً حتى لا يتعلق له بها خاطر، واختار - صلى الله عليه
وسلم - الخير من جهة العبادة على الخير من جهة المالية[7].
وقد ذكر ابن العربي ما أسماه "نكتة أصولية" أورد فيها مغفرة الله تعالى للرجل الذي وجد غصن شوك على الطريق فنزعه، ومغفرته عز وجل للبغي التي سقت الكلب بموقها، مع ان مقدار حسنات هذا الفعل لم يوازِ أجره قدر وزر الزنا في السيئات، واستشف من هذا ثلاث معان، وهي:
التنبيه على قدر هذا الفعل
بإضافته إلى سواه من الأفعال، والتنبيه على اكتساب الحسنات، بإضافة الحكم إلى السبب
الأول، والتنبيه إلى مقدار الأجر في الفعل.
يقول مفسرا هذه المعاني:
"أحدها: أن هذا الفعل
إنضاف إلى سواه، وذكر دون غيره تنبيهًا على قدره.
الثاني: أنه كان سببًا للتوبة
فترتب الغفران عليها، وترتبت هي على هذا السبب، فأضيف الحكم إلى السبب الأول
تنبيهًا على اكتساب الحسنات، فإن الحسنة إلى الحسنة ولاية والسيئة إلى السيئة
غواية.
الثالث: في معنى غفر الله له أي
غفر له من ذنوبه بمقدار هذا الفعل من الأجر"[8].
وروى الإمام مالك حديث عمر، رضي
الله عنه، عندما أفطر في يوم ذي غيم ثم ظهرت الشمس بعد فطرهم، فقال عمر، رضي الله
عنه: (الْخطْبَ يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتهَدْنَا) .
فأول مالك الخطب بأنه القضاء،
وقد رواه أبو عبيد في حديث عمر، رضي الله عنه، فذكر الحديث بنصه وقال: لا نقضيه،
ما تجانفنا فيه الإثم، وفسر آخرون الخطب بسقوط القضاء لأنه لم يتعمد فطره.
وبنى ابن العربي هذه المسألة على مسألة الأكل ناسياً؛ وجعل النسيان في المحظور على ضربين:
أحدهما: فعل المحظور مع الذهول
عن فعله.
والثانى: فعله مع القصد إليه والجهل بحظره، وكلاهما لا إثم فيه لكن الأحكام
في المسائل تختلف باختلاف هذين الضربين، وهذه المسألة تخالف مسألة الناسي؛ لأنه لا
ملامة على الناسي، فأما من أفطر في يوم الغيم فتتوجه إليه الملامة وينسب إلى
التفريط بقلة الصبر وترك التثبت فإنه التزم الصوم بيقين النهار فلا يجوز أن يخرج
عنه إلا بيقين الليل فليته خلص من الكفارة لتقريره بالعبادة فضلاً عن أن يسقط عنه
القضاء[9].
فربط ابن العربي الحكم بعدم
سقوط القضاء عليه لأن الإفطار كان من كسبه وبسبب تقصيره، إذ لم يتخذ الأسباب
الكافية للاحتياط لدينه، فمن ثم كان الفرق بين النسيان والذهول عن الحظر.
-
عَدَمُ
الِالْتِفَاتِ في العباديات إِلَى مُسَبَّبَاتِها بخلاف العاديات فإنها مبنية على
معقولية المعنى.
يميز الشاطبي في القصد إلى
المسببات في مسائل التعليل والتعبد بين العباديات والعاديات، ففي مسائل العادات
والمعاملات يظهر قصد الشارع إلى الالتفات إلى المسببات والحكم والمعاني، لظهور وجه
المصلحة، أما في مسائل العبادات" فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى ; فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى
المسببات لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد ، وهي
ظاهرة في العاديات ، وغير ظاهرة في العباديات ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى
المسببات ، والقصد إليها معتبر في العاديات ، ولا سيما في المجتهد ; فإن المجتهد
إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ، ولولا ذلك لم يستقم له
إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس ، وذلك غير صحيح ;
فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام ، والمعاني هي مسببات
الأحكام ، أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها ،
والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها، كان
ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها"[10].
-
قصد
الشارع من وضع الأسباب ما ينشأ عنها من مسبباتها وهي: جلب المصالح ودفع المفاسد.
يذهب الشاطبي إلى أن وضع
الأسباب يستلزم قصد الشَّارِع إلى المسبَّبات، وَيستدل عَلَى ذَلِكَ بما يلي:
أَحدها: أن العقلاء قاطعون بأن
الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ عنها أمور
أخر ، وإذا كان كذلك ; لزم من القصد إلى وضعها أسبابا القصد إلى ما ينشأ عنها من
المسببات .
وَالثَّانِي: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب
المصالح أو درء المفاسد ، وهي مسبباتها قطعا
، فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل المسببات لزم من القصد إلى الأسباب
القصد إلى المسببات.
والثالث : أن المسببات لو لم
تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك ; فهي ولا بد موضوعة
على أنها أسباب ، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات ، فواضع الأسباب قاصد لوقوع
المسببات من جهتها ، وإذا ثبت هذا ، وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن
تكون المسببات كذلك[11].
-
عدم
قصد الشارع التكليف بالمسببات لا ينفي قصده إلى وقوع مسبباتها.
صحيح أن الشارع لا يقصد التكليف
بالمسببات لأنها غير مقدورة للمكلف، ولكن هذا لا يمنع أن يقصد الشارع وقوع المسبَّبات عن أَسبابها. لذلك
يرى الشاطبي ضرورة التمييز بين الأمرين وعدم الخلط بينهما؛ ذلك "أن الشارع لم يقصد في التكليف
بالأسباب التكليف بالمسببات ; فإن
المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم ، وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشرع يقصد
وقوع المسببات عن أسبابها ، ولذلك وضعها أسبابا ، وليس في هذا ما يقتضي أنها داخلة
تحت خطاب التكليف ، وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى مجرد الوقوع خاصة فلا تناقض بين
الأصلين"[12].
-
القصد
إلى مسببات الأحكام ومعانيها أو عدمه سواء إذا تحقق قصد الشارع.
هل يستوي القصد إلى المعاني والمسببات وعدم القصد إليها
بالنسبة للمجتهد والمقلد؟.
يستوي بالنسبة إلى المجتهد ،كما بالنسبة للمقلد، القصد إلى
المعاني والحكم أو عدم القصد إليها، كما يستوي هذا سواء تعلق الأمر بالعاديات أو
التعبدات، وربما أشكل هذا فيما يخص العاديات لجريان التعليل بالمصالح والحكم فيها،
واستتباب الالتفات إلى معانيها وهي مسبباتها خصوصا بالنسبة للمجتهد.
يؤكد الإمام الشاطبي جوابا عن
السؤال المطروح:" أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء ، وذلك أن المجتهد إذا
نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه؛ لتقع المصلحة المشروع لها الحكم ،
هذا نظره خاصة ، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة
إليه، فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد ، وفي الوجهين لا يفوته في
اجتهاده أمر كالمقلد سواء، فإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يقضي القاضي
وهو غضبان " نظر
إلى علة منع القضاء، فرآه الغضب، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم
، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين ، والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن ،
فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك ، وكان قاضيا امتنع من القضاء بمقتضى النهي؛ فإن قصد
بالانتهاء مجرد النهي فقط من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء ;
حصل مقصود الشارع ، وإن لم يقصده القاضي ، وإن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من
مفسدة عدم استيفاء الحجاج ; حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد القاضي إلى المسبب
وعدم قصده[13].
وقد ذكر المقري بعض قواعد الأسباب، منها:
-
ليس من شرط السبب الشرعي
الجواز، فإن الزنا والسرقة سببان للحد وهما محرمان.
-
كما شرعت الأسباب شرعت
مبطلاتها، ولا يلزم من كون الشيء رافعا لحكم سبب أن يرفع حكم آخر[14].
-
"الأصل ان تقارن
الأسباب مسبباتها، كالملك مع البيع. ومن ثم قال مالك ومحمد: الأقراء هي الأطهار؛
لأن الطلاق سبب والطهر زمانه، فلا معنى
لتأخير الشروع في العدة إلى الحيض خلافا للنعمان، ولأنه تطويل للعدة وهو منهي
عنه" فطلقوهن لعدتهن" ك" أقم الصلاة لدلوك الشمس"
و"صوموا لرؤيته"[15].
المصادر والمراجع المعتمدة:
[1]- جزء من الإطار
النظري لرسالة الماجستير لخالد ناهس العتيبي بعنوان: فاعلية برنامج مقترح لتنمية
التفكير الاستدلالي لدى عينة من طلاب المرحلة الثانوية بمدينة الرياض. دراسة شبه
تجريبية. جامعة الملك سعود، الرياض.
[2]- شرح الكوكب المنير، 1/438 وما بعدها.
[3]- مقاصد الشريعة، الطاهر بن عاشور
[4] -
الموافقات،
[5] - باب ما جاء في نقصان الصلاة،
حديث رقم: 796،عن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه
وسلم -يقول: "إن الرجل لينصرفُ، وما كُتب له إلا عُشرُ صلاتِه، تُسعُها
ثُمُنُها، سُبْعُها سُدُسُها، خُمُسُها، رُبُعُها، ثُلُثها، نصفُها" 2/97،
[6]-. قواعد المقري، ص339.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق