يعرف ابن خلدون حقيقة الخلافة بأنها" نيــــابة عن صاحب الشرع في حفظ الديــــن وسيــــــــــاسة الدنيا،فصـــــاحب الشرع متصرف في أمريــــــــــــن: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل النــــــاس عليها، وأما سيــاسة الدنيا فبمقتضى رعاية مصالحـــــــــهم في العمران البشري، وقد قدمنا أن هذا العمــران ضروري للبشر، وأن رعـــــاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت
المقاصد والسياسة الشرعية
أما تعريفه للملك والسياسة فهو أنهما" كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم؛ وأحكام الله في خلقه إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع، وأحكام
البشر إنما هي من الجهل والشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه وقد ره، فإنه فاعل للخير والشر معا ومقدرهما، إذ لا فاعل سواه"
2
.
المطلب الأول: العلاقة بين الشريعة والسياسة الشرعية.
هذا فيما يخص التعريف بالمناصب السياسية الثلاث، أما علاقتها بالمقاصد الشرعية، فمن أظهر تجلياتها ما يلي:
· التكامل بين الدين والسياسة -
يتجلى هذا التكامل في كون الدين يبني السياسة بأحكامه وتشريعاته، والسياسة تعمل على حماية الدين بتحقيق مقاصده. ومقاصد الدين والشريعة تتمثل في رعاية مصالح العمران، وتحويل الطبائع الفاسدة وترقيتها وتنقيتها وصبغها بصبغة الشرع، وتربية الوازع الإيماني الداخلي.
هذه بعض من ثمرات كثيرة للدين وتغيرات تحدث نقلة نوعية في حياة العباد، تنقلهم من حياة التوحش والاستطالة وقانون القوة وشريعة السلطان إلى حياة التوحد والأحكام في ظل قوة القانون وسلطان الشريعة، ولا تصير حياتهم إلى هذا المصير إلا"
بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض، واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا" 3 ..
· شمول السياسة الدينية للمصالح الدنيوية والأخروية. -
يميز ابن خلدون في القوانين السياسية بين نوعين: دينية وعقلية، والفرق بينهما أن الأولى من الشارع ومقصودها إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، بينما الثانية من وضع العقلاء والخبراء والساسة، وغالبا ما تنحصر قوانينها ومصالحها في شؤون الدنيا وتهمل شؤون الآخرة، يوضح هذا قوله: "فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل...فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم:"صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض"
4
.
فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطا بنظر الشارع"
5
.
يشير النص إلى خاصية شمول الشريعة لكل جوانب الحياة الإنسانية من أمور العبادات وشؤون المعاملات وقضايا الحكم والسياسة.
وهذا النص ناهيك عن نصوص أخرى يدمغ بها صاحب المقدمة مجموعة من الطوائف التي قامت بقراءة أفكاره بأبجديات أجنبية عن ثقافته ودينه ومقاصده. والنص يدحض مزاعم الدنيويين أنصار العلمنة المعلنة إحداث القطيعة مع الدين، وفصل مناهجه عن المجالات الحيوية في حياة البشر.
· السياسة العادلة لا تتعارض مع الشريعة الكاملة. -
التقسيم الخلدوني للسياسة أنها: سياسة عقلية، وسياسة دينية، أما ابن قيم فله تقسيم آخر يرى فيه بأن" السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها" 6 .
والشريعة الكاملة لا يمكن أن تتعارض مع السياسة العادلة، بل هي الأخت الرضيعة لها، فالسياسة العقلية بتعبير ابن خلدون عندما تستحضر مقاصد الشارع وتحسن تطبيقها وتنزيلها على واقع الناس بما يجلب المصالح لهم ويدفع المفاسد عنهم، تكون سياسة عادلة- بتعبير ابن قيم-،"ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة" 7 .
فمتى كانت السياسة والولاية والأحكام جارية على مقتضيات الدين، وقوانين العدالة، وكان المقصود بها إصلاح أحوال الناس في المعاش والمعاد، صح بأن تعد السياسة شريعة، والمصلحة شريعة. وذلك "لأن الشريعة التى بعث الله بها محمدا جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق، لكن قد يغير أيضا لفظ الشريعة عند اكثر الناس فالملوك والعامة عندهم ان الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم ان القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هى كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة فى العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات، ثم هى مستعملة فى كلام الناس على ثلاثة أنحاء شرع منزل وهو ما شرعه الله ورسوله، وشرع متأول وهو ما ساغ فيه الاجتهاد، وشرع مبدل وهو ما كان من الكذب والفج ور الذى يفعله المبطلون بظاهر من الشرع أو البدع أو الضلال الذى يضيفه الضالون إلى الشرع" 8 .
· التحلي بالفضائل السياسية من علامات صلاح الراعي والرعية.
إن الدخول في معترك السياسة والتعاطي معها يستوجب حسب ابن قيم الإلمام بمقاصد الشريعة وفهمها حق الفهم ومعرفة كيفية تنزيلها، والتخلق بما يسميه ابن خلدون "الفضائل السياسية" والتنافس في تحصيلها، وإقامة أسبابها، ودفع أضدادها، ومن أصول الفضائل، وأمهات المقاصد، حفظ الدين بحفظ التدين، وتعظيم الشريعة بتطبيق أحكامها في الشرائع والشعائر، وحفظ العرض، والسهر على رعاية هذه المقاصد وتيسير أسباب تثبيتها، وتسخير الأموال في خدمتها، وهو ما يوضحه ابن خلدون بقوله: " فإذا نظرنا في أهل العصبية ومن حصل لهم الغلب على كثير من النواحي والأمم، فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله...
وبذل الأموال في صون الأعراض وتعظيم الشريعة، وإجلال العلماء الحاملين لها، والوقوف عندما يحددونه لهم من فعل أو ترك، وحسن الظن بهم،...والانقياد إلى الحق مع الداعي إليه...والتدين بالشرائع والعبادات، والقيام عليها وعلى أسبابها علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم، واستحقوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم"
9
.
فانظر كيف جعل ابن خلدون إقامة الأخلاق العالية، من مؤهلات السياسة الراشدة وعوامل الغلب والظفر على الأعداء.
أما تضييع الأصول والمقاصد، وفقد الفضائل السياسية، واقتراف المفاسد، فهو إيذان بأن الملك إلى الانقراض، وعقد الدولة إلى الانفراط.
جاء في المقدمة:"وبالعكس من ذلك إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم، ويتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد آتاهم من الملك، وجعل في أيديهم من الخير:"وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"
واستقرئ ذلك وتتبعه في الأمم السابقة تجد كثيرا مما قلناه ورسمناه"
12
المصادر والمراجع المعتمدة .
المصادر والمراجع المعتمدة .
- المقدمة
- الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
- الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية
- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية