الجمعة، 1 مايو 2020

معالم التجديد المنهجي عند الشاطبي(علم المقاصد) وابن خلدون(علم العمران).

التجديد المنهجي، المقاصد، العمرانرغم القيمة العلمية الكبرى لكل من موافقات الشاطبي ومقدمة ابن خلدون فقد نالهما الإهمال، وطالهما النسيان.

فكتاب المقدمة عرف تجاهلا لقرون طويلة، ولم يكتب له أن ينال من الحظوة والاهتمام والدرس والبحث ما نالته وحظيت به كتب أخرى، ولعل السبب في ذلك كما يتراءى للدكتور عبد الواحد وافي هو" أن ابن خلدون في بحوث مقدمته كان سابقا لتفكير عصره بعدة مراحل، ولذلك لم يستطع معاصروه، ولا من جاءوا من بعده في مدى القرون الأربعة التالية أن يتابعوه في تفكيره، فضلا عن أن يحاولوا تكملة بحوثه وتنقيحها، بل إن المقدمة نفسها قد ظلت طوال هذه الحقبة مجهولة لدى كثير من الباحثين في الشرق والغرب"[1]


 
وكتاب الموافقات هو الآخر طاله إهمال مماثل الأمر الذي حال دون تداول الكتابين من طرف الباحثين، ومرد هذا ليس لعدم شهرتهما-كما قد يتوهم البعض-" فإنه لا يلزم من الشهرة وعدمها فضل ولا نقص، فالكتب عندنا كالرجال، فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر، ويكفيك تنبيها على فساد هذه النظرية ما هو مشاهد"[2].

 وإنما ترجع أسباب عدم تداول كتاب الموافقات، وبالتالي عدم تناوله بالدرس والبحث- حسب الشيخ عبد الله دراز- إلى أمرين: أحدهما المباحث التي اشتمل عليها، وثانيهما: طريقة صوغه وتأليفه؛ فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها المؤلف... وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة، وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول...

والثاني يتمثل في ما كان يتمتع به كاتب الموافقات من مؤهلات علمية عالية، وكفاءة في الكتابة نادرة جعلت منه" ذهنا سيالا، وقلما جوالا"[3] لايجارى في أسلوبه، وتناسق أفكاره، وتماسكها وخلوها من الحشو مما" يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط، لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه، وغرضا يعول في سياقه عليه، فهو يكتب بعدما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطرق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل"[4].

وسبب آخر كان وراء ما لحق الكتابين من التجاهل والإهمال وهو" حالة الخمول والركود والارتكاس التي كان يتخبط فيها العالم العربي طوال هذه الفترة، وإلى أن الأجواء العلمية الرفيعة التي كانت تحلق فيها مقدمة ابن خلدون (وكذلك موافقات الشاطبي) كانت تسمو كثيرا عما كانت عليه مستويات العقول في هذا العصر، وقد امتدت هذه الفترة من القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وشمل ظلامها جميع البلاد العربية حتى مصر نفسها"[5].
هذا جانب من جوانب التشابه بين الموافقات والمقدمة، وتوجد مواضيع متعددة شغلت بال الرجلين، وشكلت نقطة التقاء بينهما، ووحدت منهج المعالجة لديهما، مثل مواضيع البدع السلوكية، والفصام بين العلم والعمل، والتصوف، وقضية المنهج، ومحاربة الفساد والمناداة بالإصلاح على جميع المستويات، على مستوى المنهج والعقيدة والفكر والسلوك. وسأخصص هذا الفصل لبعض من هذه الجوانب محاولا التأكيد على مظاهر التشابه الفكري والتقارب الذهني والبعد المقاصدي في المعالجة بين الشاطبي وابن خلدون من خلال المباحث التالية:

 المبحث الأول: التجديد  المنهجي لدى الشاطبي وابن خلدون.

         يمكن الحديث عن أبرز معالم التجديد المنهجي عند الشاطبي وابن خلدون من خلال المطالب التالية:

   المطلب الأول: الدعوة إلى تخليص علمي العمران والأصول مما لا فائدة منه.

أدخل المؤرخون والإخباريون في التاريخ ما ليس منه، وأخرجوا منه ما هو منه، والسبب هو الغفلة عن طبائع وقوانين الاجتماع الإنساني وفقدهم لمعيار ومنهج برهاني يميزون به في هذا الاجتماع بين ما هو طبيعي فيه وأصيل، وما هو عارض، وما هو غير طبيعي ودخيل.
ولتخليص علم التاريخ من المغالط والأوهام والروايات الواهية التي علقت به، يجب الاحتكام إلى معايير موحدة تجعل ما هو مفيد ونافع في صلب هذه العلوم. أما غير المفيد والنافع فينبغي أن يتم إبعاده.
فابن خلدون يرى أن المؤرخين مزجوا علم التاريخ بكثير من الأخبار العريقة في الوهم والغلط بسبب غفلتهم عن طبائع الأكوان ومقاصد التأليف لدى المؤرخين القدامى، فخلطوا الحق بالباطل، والغث بالسمين. يتحدث ابن خلدون عن إقحام المؤرخين في التاريخ ما ليس من صلبه، مبينا أن سبب ذلك إنما أتى:"تقليدا لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم"[6]، ويضيف مبينا غياب الفائدة، وانعدام المقصد من هذا الصنيع:" فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنساء ونقش الخاتم...إنما حملهم على ذلك التقليد والغفلة عن مقاصد المؤلفين والأقدمين والذهول عن تحري الأغراض في التاريخ"[7].
إن عدول السابقين في رواياتهم عن هذا المنحى العقلاني الكفيل بإضفاء صفة العلمية على علم التاريخ، جعل هذا الأخير" من مناحي العامة"[8]، وعرضه للاستخفاف والاستنكاف من"العوام ومن لا رسوخ لهم في المعارف"[9]،فكانت النتيجة"أن اختلط المرعى بالهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب"[10].
علم التاريخ علم شريف، وهو لا يكتب في تصور ابن خلدون الإسلامي للإمتاع والمؤانسة وتمضية الوقت، وإنما يقصد بكتابته تحقق الفائدة والاستبصار، وتحصيل الاقتداء والاعتبار، أما ما لا يفيد في علم ولا عمل، ولا ثمرة له في الدارين، فهو معدود من الحشو الذي ينبغي أن تنزه عنه هذه العلوم.
 هذا ما يثبته ابن خلدون في الصفحات الأولى من مقدمته وهو يقدم تعريفا وظيفيا لعلم التاريخ:"اعلم أن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم...حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا"[11].
وهذه الفائدة هي المقصد الأسمى الذي توخاه العلماء المسلمون من كتابة السيرة النبوية وتدوين سنة النبي الكريم، وأبرز مواطن الاقتداء والاعتبار في التاريخ "تحقيق الأمة كما ينبغي أن تكون موحدة في الفكر والممارسة"[12].
الشاطبي،من جهته، ينتقد على الأصوليين خلطهم اللباب بالقشر، وإقحامهم في علم أصول الفقه كثيرا من المسائل التي ليست من صلبه، ولا فائدة لها في تحقيق الفقه،" كمسألة ابتداء الوضع، ومسألة الإباحة، هل هي تكليف أم لا، ومسألة أمر المعدوم، ومسألة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع أم لا، ومسألة لا تكليف إلا بفعل..."[13].
ويسطر قاعدة يبين فيها ما هو حقيق بالانتساب إلى علم الأصول، وما ليس بحقيق، والقاعدة:" كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه؛ فإذا لم يفد فليس بأصل له، ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه، وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه: كعلم النحو، واللغة، والاشتقاق، والتصريف، والمعاني، والبيان.."[14].

المطلب الثاني: الدعوة إلى تجاوز التقليد إلى النقد والتحقيق.

من أشد ما يصيب عقل الأمة بعدها عن أصولها وارتماؤها في أحضان التقليد.  وهذا ما يقع لأي أمة يسيطر عليها الجمود والركود. كما حدث في القرن الثامن الهجري.
و التقليد من أبرز الأسباب المؤدية إلى الغلط، لأنه يعمي عن رؤية الحقائق، ويفقد القدرة على تقويمها، بعرضها على أصولها.  وهذا  لا يقتصر على العوام ، بل يشمل حتى أهل العلم من المتعاطين للتاريخ والتفسير. وهذا ما يوشي به قول ابن خلدون: "وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أوسمينا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"[15].
أمام مظاهر التقليد العريق، وقلة التحقيق، لم يكن أمام العالمين الكبيرين إلا أن ينتدبا نفسيهما لتقديم مشروع يعالج هذه الأوضاع بعين التحقيق، ويقوم بالتقويم والنقد الدقيق، رغبة في التجاوز والإصلاح لهذا الخلل العميق، جاء في المقدمة:"وبالجملة فالمحققون بين أهل الملل والنحل قليلون لا يكادون يجاوزن عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون، واتباعهم فيما يقولون، بيد أنه لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد، وبليد الطبع والعقل، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال.."[16].
ويقول في سياق نقده لمن يسميهم" المتطفلين" الذين قاموا بتخليط روايات وأخبار المؤرخين بالأباطيل والأغاليط الموهومة أو المبتدعة، ولم يجشموا أنفسهم عناء النخل لما فيها من الدخل:" وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها. وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها. وأدوها إلينا كما سمعوها. ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها. ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها. فالتحقيق قليل. وطرف التنقيح في الغالب كليل...[17].
ومع قلة المحققين، تزداد خطورة الإقدام على التحقيق، لا سيما إذا كان التحقيق سيفتح بغرض تسليط الضوء على ملفات وأوضاع عرفت اختلالات بنيوية وأصابتها اعتلالات مزمنة، أخطرها استبدال حقائق الوحي الناصعة البيان بالأوهام وأضغاث الأحلام، جاء في الموافقات:"وجملة الأمر في التحقيق أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل، وقلب بصدمات الأضغاث عليل، فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل..."[18].
تشكل القواعد والأصول إطارا مرجعيا يؤطر الفكر بتوجيهاته فيجعله مستنيرا وناقدا بصيرا، وبدون هذا الإطار المرجعي الضابط يقع الخبط والخلط، والاحتكام إلى الأهواء، وشيوع التقليد الذي هو شر الأدواء، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في حديثه عن مغالط المؤرخين، ونعتهم بأنهم "...يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها..."[19].
 والشاطبي هو الآخر ينكر على القوم العقل البليد، والركون إلى التقليد، والاعتماد على النقل والاستظهار دون إعمال الفكر والاستبصار، جاء في الموافقات في سياق الاستنكار: "وإياك وإقدام الجبان، والوقوف على الطرق الحسان، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان، وفارق وهد التقليد، راقيا إلى يفاع الاستبصار..."[20].


              المطلب الثالث: الدعوة إلى تجاوز الظنية إلى العلم والقطعية

قصد كل من الشاطبي وابن خلدون إلى تجاوز الاعتماد في الأخبار على الإملاء والنقل، إلى معايرتها بمعيار العلم والعقل، ومن ثم عملا على وضع قواعد يقينية وأصول قطعية تكون بمثابة الكليات التي ترد إليها جزئيات الوقائع والحوادث.
 وهذا هو المقصد الأول والأساس من تأليف المقدمة، كما ينص على ذلك ابن خلدون في قوله: "فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، وتمييز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب يوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه. وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه. هذا هو غرض الكتاب الأول من تأليفنا"[1].
بناء على هذا القول ذهب الباحثون إلى اعتبار المقدمة "محاولة في النقد التاريخي، ناهض المؤلف فيها ميل مؤرخي الشرق إلى جمعهم جمع تخليط كل الأخبار والوقائع"[2]، وأنها "دفاع عن مشروعية التغيير في التاريخ ، وعرض منهجي يبين كيف ينبغي أن تكون هذه الكتابة التاريخية الجديدة"[3].
وإيمانا من ابن خلدون بضرورة تجاوز هذا التخليط، انبرى لإنشاء المقدمة فعمد إلى الكشف عن الأغاليط التي وقع فيها المؤرخون والأخباريون، فوضع قواعد ضابطة تمكن من استيعاب أسباب الوقائع، والوقوف على أصول الأخبار، والتمييز بين الصحيح والسقيم منها."وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقه وجرى على مقتضاها كان، وإلا زيفه واستغنى عنه"[4].
من هذه القواعد:
-"العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال"[5].
-الاحتكام إلى "أصول العادة، وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني"[6].
 -ومنها أيضا" العلم باختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من أوصاف أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها..."[7].
-ومنها: قياس "الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب"[8].
وأبرز القواعد وأولها عند ابن خلدون:
-تصحيح الأخبار في ضوء ما سماه " طبائع الأكوان"[9].
هذا المعيار الذي يكثر من ذكره والتأكيد على أهميته في معرض الرد على نقلة الأخبار الوهمية:
وذلك مثل قوله:" وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم له بطبائع الكائنات..."[10] ، وقوله في بيان سبب وقوع الأخباريين في المغالط:" ...إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات..."[11]. 
لقد كان هاجسه الذي صاحبه طوال رحلته في المقدمة هو البحث عن مباني الأسباب وأصول القوانين، والكشف عن الدواعي والأسرار، والدعوة إلى التفطن لها والاعتبار، ولهذا تتكرر في مقدمته عبارات مثل:" وداعية ذلك..."، "والسبب في ذلك..."، " فتفطن لهذا السر فإنه خفي..." ونظائر ذلك.
يذكرنا هذا المسلك بما قام به الشاطبي في موافقاته، فإنه يعتمد الأدلة والاستقراء والتجربة العادية كمسالك ومناهج يقصد به تلافي الظنية والوصول إلى القطع، ولذلك يكرر في موافقاته عبارات تدل على هذا المنحى، على غرار هذه الأقوال:
"وهذا مشاهد في التجربة العادية"[12]، "وهو مطلب خاص برهانه التجربة التامة والاستقراء العام"[13]، "واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به"[14]، "والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع"[15]، "والقاعدة المقررة في موضعها..."[16]، "فقد قام الدليل القطعي على أن..."[17]
لقد أراد ابن خلدون تجاوز التقليد السائد في دراسة التاريخ والقائم على مجرد النقل دون صقل وإعمال عقل، فعمد في دراساته لأحوال الأمم إلى التحليل والتعليل، والتقويم والتقنين، وبيان العلاقات، وإبراز أوجه التماثل أو التباين، معتمدا" المنهج العلمي" في دراسة الواقع التاريخي للمجتمعات[18] وعاملا على الكشف عن "السنن التاريخية"، أو"القوانين التاريخية"، محاولا بذلك أن" يجاوز به نطاق التعليم التاريخي التقليدي، وأن يرتقي إلى دراسة ما نسميه في أيامنا السنن التي تهيمن على المجتمعات البشرية وتسيطر على تطور الدول"[19].
يقول غاستون بوتول:" وقد شعر ابن خلدون بنقص التاريخ كما كان يتمثل في زمنه، هذا التاريخ الذي كان يقوم على سرد الوقائع والأسماء والأوقات، فعزم على الارتقاء إلى معرفة ما نسميه السنن التاريخية، وهو إذ لم يرض بالرواية ولا بالتعداد أراد الفهم والإيضاح، وأراد الدلالة إلى أصل الأمم ومعرفة أسباب الحوادث وما يمكن أن يكون بينها من تباين وتماثل"[20].
وإذا كان صاحب المقدمة قد أحس بنقص في التاريخ، فحاول أقصى الاستطاعة إحداث القطيعة مع المناهج التقليدية السائدة في زمنه، والارتقاء بالتاريخ من المستوى السردي والأسطوري، إلى مستوى العلم القائم على العقلانية والتعليل والتحليل، فإن صاحب الموافقات هو أيضا، شعر من جانبه بنقص في علم الأصول، تمثل هذا النقص في إقحام موضوعات عديدة فيه وهي ليست منه، كما تجلى في إغفال مقاصد الشريعة، وهو ما يشير إليه الشيخ عبد الله دراز بقوله:"بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما، هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى قيض الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري، لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى، في هذا الفرع المترامي الأطراف، في نواحي هذا العلم الجليل"[21].

المطلب الرابع: الدعوة إلى تجاوز التعلق بالظواهر إلى التركيز على المقاصد:

في عصر النقص والخمول، نادى الشاطبي وابن خلدون بالعودة إلى القواعد والأصول، وتنقيح العقول، وتحقيق المناط، واستيعاب ما بين الموجودات من الانفصال أو الارتباط، والوقوف على حقائق الأشياء وأرواحها.
إن الغفلة عن هذا المنهج العلمي في دراسة وقائع الاجتماع والتاريخ، جعلت ابن خلدون يستنكر على المؤرخين تركيزهم على الروايات التاريخية الواهية التي تحكمها الأساطير والأوهام، أو بتعبيره في المقدمة جلبهم لحوادث التاريخ " صورا قد تجردت من موادها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها، وإنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها، ولا تحققت فصولها..."[22].
أبرز ممثلي الاتجاه التقليدي في التعاطي مع حوادث التاريخ، الذين وجه إليهم ابن خلدون سهام نقده ابن المقفع الذي يروي حوادث"غير مبرهنة"[23]يذكرها"على منحى الخطابة"[24]، وكذلك القاضي الطرطوسي الذي"حوم حول الموضوع ولكنه لم يصادف فيه الرمية ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلة... "[25].
ومؤرخون آخرون لم يسلموا من هذا النقد من ابن خلدون، فـ"ابن قتيبة يدعو إلى سطحية السرد. الدينوري يسقط الأسانيد وينتقي من مختلف الآثار ما يلائمه. اليعقوبي لم يكن يحرص شأن الطبري على إيراد مصادر كل خبر، ولا على تصدير الخبر بأسانيد رواته"[26].
  لعل هذا الذي سطره ابن خلدون هو ما يوحي به كلام الإمام الشاطبي حينما يذكر بنعمة الله عليه وتوفيقه له إلى تجاوز الصور والظواهر والأشباح إلى المواد والحقائق والأرواح، يقول:"...إلى أن من الرب الكريم، البر الرحيم الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم، فبعثت له أرواح تلك الجسوم، وظهرت حقائق تلك الرسوم، وبدت مسميات تلك الوسوم، فلاح في أكنافها الحق واستبان، وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان..."[27].
هذا الاعتماد على الصور والأشباح بدل المواد والأرواح، لم بقتصر على المؤرخين أو من يسميهم ابن خلدون بالمقلدين أو المتبلدين، بل شمل أيضا علم الأصول، الذي عرف بدوره إغفال الحقائق على حساب الرسوم، وإهمال الأرواح والعناية بالجسوم، الأمر الذي استنهض همة الإمام الشاطبي لتأليف كتاب الموافقات، وجعل مقصده الأسنى، وهدفه الأعلى، تجاوز الظواهر إلى التعريف بأسرار التكليف، وهو ما يوشي به كلامه:"أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم، الطالب لأسنى نتائج الحلوم، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم، طمعا في إدراك باطنه المرقوم، معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم"[28].
والميزان الذي ركز عليه الشاطبي، هو ميزان مقاصد الشريعة الذي تضبط به الجزئيات المتناثرة بردها إلى كلياتها الحاكمة عليها، يقول الشيخ عبد الله دراز:" إذ لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية، دون النظر إلى كليات الشريعة وإلا لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشرع ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع"[29].



المصادر والمراجع المعتمدة :

- المقدمة.
 - الموافقات .
- بحوث في الإسلام والاجتماع للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص283.
- الخطاب التاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون، للدكتور علي أومليل، ص16.
- ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، غاستون بوتول، ص 3.
- الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون، الدكتور علي أومليل
- المقدمة، تاريخ ابن خلدون فصل المغالط وذكر شيء من أسبابها
- المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع
- ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية


ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة مقاصد
تصميم : معاد برادة