الثلاثاء، 28 أبريل 2020

الاستدلال المقاصدي عند علماء المالكية . الجزء الثاني

الاستدلال، المقاصد، الاستدلال المقاصدي، المالكية

مما لا ريب فيه أن تصدير مصنف بهذا الموضوع او ذاك وتقديمه على غيره، له ارتباط بمقاصد المؤلفين من التأليف. فلذلك اختلفت مقاصد المؤلفين في تصدير مصنفات الفقه والحديث وأصول الفقه ، ففي الفقه مثلا، هناك من بدأ بالوحي كالبخاري، ومنهم من بدأ بالإيمان كمسلم، ومنهم من بدأ بالوضوء كالترمذي ، ومنهم من بدأ بالصلاة، ومنهم من بدأ بالاستنجاء، ومنهم من بدأ بالوقوت وهو مالك، ولكل وجهة هو موليها، ولكل مقصد من وراء التقديم والتأخير،

الاستدلال المقاصدي عند علماء المالكية

المطلب الثالث: ربط مواضيع الأصول بمقاصد التكليف والمكلف

مما لا ريب فيه أن تصدير مصنف بهذا الموضوع او ذاك وتقديمه على غيره، له ارتباط بمقاصد المؤلفين من التأليف. فلذلك اختلفت مقاصد المؤلفين في تصدير مصنفات الفقه والحديث وأصول الفقه ، ففي الفقه مثلا، هناك من بدأ بالوحي كالبخاري، ومنهم من بدأ بالإيمان كمسلم، ومنهم من بدأ بالوضوء كالترمذي ، ومنهم من بدأ بالصلاة، ومنهم من بدأ بالاستنجاء، ومنهم من بدأ بالوقوت وهو مالك، ولكل وجهة هو موليها، ولكل مقصد من وراء التقديم والتأخير، قال ابن العربي في ترجيح صنيع الإمام مالك بتصديره كتابه الموطأ بباب الوقوت:" وهو أسعدهم في الإصابة لأن الوحي والإيمان علم عظيم منفرد بنفسه؛ فإن ذكر منه قليلًا لم يغنه عن المقصود. وإن ذكر كثيراً صرف عما تصدى له، وأما من بدأ بغير ذلك فإنه لا يلزم الاستنجاء ولا الوضوء ولا الصلوات إلا عند دخول الوقت، ولذلك قال محققو علمائنا، رحمة الله عليهم، إنه ليس في الشريعة نفل يجزئ عن فرض قبل الوقت"[1].

ووجه بعضهم  التصدير بالوضوء بالقول: إن الوضوء واجب عليه في وقت غير معين متى فعله أجزأه.  وضعف ابن العربي هذا القول؛" لأنه لا يصح وجوب الفرع مع عدم وجوب الأصل ولا وجوب الشرط مع عدم وجوب المشروط"[2] .
هذا في المصنفات الحديثية ، والشأن كذلك في التصنيف الأصولي، فلكل مصنف مقصد من تقديم هذا الباب أو ذاك، فالشاشي الحنفي، مثلا، بدأ  بمبحث الخاص وتعريفه وبيان حكمه، وبدأ الشرخسي بمباحث الأمر والنهي وبرر هذا الابتداء بقوله:"فأحق مَا يبْدَأ بِهِ فِي الْبَيَان الْأَمر والنهى لِأَن مُعظم الِابْتِلَاء بهما وبمعرفتهما تتمّ معرفَة الْأَحْكَام ويتميز الْحَلَال من الْحَرَام"[3].
 
استهل بعض المالكية مصنفاتهم بالحديث عن التكليف،  وهذا التكليف له أركان أربعة ذكرها الأبياري في قوله:"التكليف لا يعقل إلا باجتماع أربعة أمور: التكليف، وهو المصدر، والمكلف، وهو من يقوم به التكليف، والمكلف هو الذي استدعي منه الفعل، والمكلف به، وهو المطلوب"[4].
وصدر بعض أصوليي المالكية كتبهم الأصولية بمبحث التكليف، كالقاضي أبو بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر ابن العربي.

والبدء بهذا المبحث، كما يتبين من خلال العناوين المتضمنة تحته، يشير إلى التوجه المقاصدي لهذين العالمين، وربطهما هذه المباحث بالمقاصد الشرعية، ولعل أولى مقصد ينبغي البدء به هو  بيان مقاصد الشريعة من التكليف، وهو أحد مقاصد الشريعة الأربعة التي تطرق إليه الشاطبي في موافقاته. فالشريعة إنما نزلت لمخاطبة المكلفين وتكليفهم بتكاليف في مقدورهم ولمصلحتهم، فلا تكلفهم بما لا يطاق، وليس في تكليفاتها ما لا يحتملونه من المشاق.

بعد المقدمات العلمية التي خصصها الباقلاني لتحديد المفاهيم، كالعلم والحد والدليل والنظر، أتبع ذلك بالتطرق إلى أقسام اكتساب الخلق، وجعلها على ضربين:كسب لعاقل مكلف, وكسب لغير عاقل. وذكر أن من الضرب الثاني البهائم والأطفال وناقصو العقل كالمجانين,"وأفعال هؤلاء باتفاق غير داخله تحت التكليف لخروجهم عن العقل والتمييز وصحة تلقي التعبد والعلم به وقصد ما يكلفونه بعينه, ولسنا نعني بزوال التكليف عنهم فيها إلا ترك المطالبة لهم بالاجتناب لها أو الإقدام عليها, وحصول وعد ووعيد وثواب وعقاب ومدح وذم عليها, ولا نعني به سقوط أحكام شرعية تجب فيها على ولي الطفل والمجنون, وصاحب البهيمة وقائدها من ضمان جناية, وغرم متلف, وقيمة أرش ووجوب زكاة في مال, غير أن لزوم ذلك لوليهما ليس بأمر وخطاب لهما, وإنما هو تكليف لغيرهما"[5].

وعند حديثه عن امتناع تكليف الساهي فعل ما سها عنه، علل الباقلاني رأيه استناد إلى المقصد من التكليف، وذلك أن المكلف بالفعل:" إنما يكلف إيقاعه أو اجتنابه على وجه قصد التقرب وإرادة الله تعالى بالفعل أو الاجتناب, وقد علم أن القصد إلى التقرب بفعل بعينه أو اجتنابه متضمن للعلم به حتى يصح القصد إليه دون غيره, وموقع الشيء مع السهو عنه وعدم القصد لا يصح أن يكون مع سهوه عالمًا به"[6].

وبدأ ابن العربي كتاب "المحصول" بمسألة: تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وذكر اختلاف العلماء في ذلك، واختار" أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عقلا وَاقع شرعا فَإِن الله تَعَالَى كلف الْعباد الْعِبَادَات والوظائف كلهَا قبل أَن يقدروا عَلَيْهَا لِأَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل. فَأَما تَكْلِيف الْمحَال فَلَا يجوز عقلا لَكِن إِذا وَردت بِهِ الصِّيغَة شرعا حمل على التكوين والتعجيز:[7] وَكَقَوْلِه تَعَالَى[8].[9].

كما أعمل علماء المالكية الاستدلال بمقاصد المتكلم، ويقصد بها مقاصد المكلف من خطابه العادي الذي يجري على لسانه ويعقد عليه نيته وعزمه، أو خطابه العرفي[10] الذي يجري على لسان قومه. ولا تخفى أهمية هذا الضرب من الاستدلال عند تنزيل الحكم على مناط معين، وقد نقل ابن قيم قول أبي عمر بن عبد البر في الكافي مراعاة النية وإلا فمراعاة البساط: "مراعاة نية الحالف، فإن لم تكن له نية نظر إلى بساط قصته"[11].
إن العلم بمقاصد الخطاب سواء أكان شرعيا أو عاديا أو عرفيا مبني على القرائن المحتفة به والملازمة له يتعين استحضارها للفهم الصحيح والتنزيل السليم للحكم على المحكوم عليه الذي هو المكلف، ونبين اهمية مقاصد المتكلم لدى علماء المالكية من خلال الفروع التالية:

-     مراعاة مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان:

تعد مراعاة مقتضيات الأحوال أو اختلاف الدلالة باختلاف الأحوال مسألة بيانية مهمة، وقد تم إعمالها في مجال المقاصد، ذلك أن مقاصد المكلف من كلامه إنما تعرف بالنظر إلى الأحوال المصاحبة لفعله والقرائن المحتفة بخطابه، جاء في المقدمة في تعريف علم البيان وبيان جدته وفائدته والمقصود منه:" هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة. وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني"[12].

ويرى ابن خلدون أن أحوال الخطاب أو الفعل من الأمور المهمة التي يجب أخذها بالحسبان في الدلالة، لأن الخطاب أو الفعل ما لم يتم اعتبار الأحوال المكتنفة به لم يحصل المقصود منه، يقول: "ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المختلفة للدلالة أحوالُ المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل، وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه، وإذا لم يشتمل على شئء منها فليس من جنس كلام العرب، فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به، بعد كمال الإعراب والإبانة، ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم إنما هو الأهم عند المتكلم..."[13].

وظاهر جدا التشابه بين صاحب المقدمة وصاحب الموافقات في وجوب رعي مقاصد الكلام واعتبار مقتضى الحال، فقد استدل الإمام الشاطبي على أهمية العلم بـ" علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال المخاطب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب، أو المخاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف بحسب حالين،وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك؛ وكالأمر بالإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال"[14].

المقصود من الكلام هو إفادة السامع والدلالة على المراد، فمتى حصل الفهم فقد حصلت الإفادة، وإفادة مقصود المتكلم مرتبطة أساسا بتركيب الكلام والتأليف بين مفرداته لا بالمفردات معزولة عن التركيب، جاء في المقدمة: " اللغات ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة"[15].
وهو عين ما قرره الشاطبي ونبه عليه في موافقاته، حين قال في سياق حديثه عن العام" العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان"[16]،وحين لفت الانتباه إلى ضرورة "أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوتة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما صلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود، ولا أيضا كل المعاني، فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه"[17].

تأليف الألفاظ وتركيب المفردات هو الذي يميز بين أهل صناعة اللغة ومن ليس من أهلها. وذلك لأجل المعاني والمقاصد التي تحصل بالتركيب والتأليف، يقول ابن خلدون:" فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طلوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى صناعة؛ وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة..وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف  الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه؛ وتختلف الجودة في الأواني بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء؛ كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعاني واحدة في نفسها. وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه[18]. 

-     العلم بقصد المتكلم قرينة تمنع من إجراء الخطاب على عمومه.

في مسألة هل يجب تخصيص العام بخروجه على سبب خاص وسؤال خاص أم لا؟، يرى الباقلاني مراعة مقاصد المتكلم قبل الهجوم بالقول بالعموم فيه، يقول:"وقد نعلم أحيانًا ضرورة قصد المتكلم إلى قصر العام على السبب والسؤال الخاص، ومتى علم ذلك لم يجز دعوى العموم فيه، لأن العلم بقصده قرينة تمنع من إجراء الخطاب على عمومه. وذلك نحو علمنا بأن من قيل له كل هذا الطعام وكلم هذا الإنسان، فقال: والله لا أكلت ولا تكلمت، وهو يقصد إلى أنه لا يكلم من قيل له كلمه، ولا يأكل ما قيل له كله، وأمثال هذا كثير.[19]

ويخلص من هذا إلى تأصيل قاعدة عامة؛" فمتى علم القصد إلى قصر الخطاب على السبب والسؤال الخاصين وجب حمله على ذلك. وطريق الاضطرار إلى قصد الله تعالى إلى قصر العام على السبب والسؤال منسد، وإنما يعرف ذلك بتوقيف الملك والرسول عليهما السلام على أنه مقصور على ما حرم عليه أو العلم الضروري من حال النبي والملك عليهما السلام إلى القصد إلى قصره على بعض ما جرى عليه الاسم"[20].



المصادر والمراجع
[1] - القبس،.
[2] - القبس،
[3] -  أصول السرخسي 
[4] - التحقيق والبيان،
يرى الأبياري أن  تكليف ما لا يطاق يدل عند الأصوليين والمتكلمين على أربعة أوجه:
أحدها- ما لا يعقل على حال، كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس، وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، إلى ما يضاهي ذلك مما لا يعقل.
الثاني- إطلاقه على ما لا يدخل تحت مقدور البشر، وإن كان ممكنا في نفسه، كخلق الجواهر والأعراض، فإن ذلك لا يدخل تحت القدرة الحادثة.
الثالث- إطلاق ما لا يطاق على ما يقدر العباد عليه في الاعتياد، وإن كان من جنس مقدورهم، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، وجميع ما لم تجر العادة به، مع كونه من جنس مقدور العباد.
الرابع- إطلاق اللفظ على جنس المقدور في الاعتياد، ولكن لم يخلق الله تعالى للعبد قدرة عليه. ومن هذا القبيل جميع الطاعات التي لم تقع، والمعاصي الواقعة. فإن الله تعالى لم يقدر العاصي على ترك المعصية، ولا الممتنع من الطاعة على فعلها.
والذي نختاره أن التكليف بجميع ذلك جائز من جهة العقل، وقد دللنا على صحة ذلك فيما سبق. وأما الوقوع السمعي فلم يقع عندنا من هذه الأقسام إلا القسم [الأخير]. فأما ما سواه، فلم يقع. ودل على ذلك استقراء الشرائع ونصوص الكتاب"التحقيق والبيان،
[5] - التقريب والإرشاد،.
[6] - التقريب والإرشاد
[7] - كما في قوله تعالى في سورة الإسراء، الآية: 50.
[8] - كما في قوله تعالى في سورة البقرة، الآية: 64.
[9] - المحصول، 
[10] - الاسترشاد بقصد الفاعل ، وكذا الاسترشاد بالعادة العرفية من المسالك المهمة في الكشف عن مقاصد الشارع. ينظر : مقاصد الشريعة بأبعاد حديدة، للدكتور: عبد المجيد النجار، 
[11] - أعلام الموقعين
[12]- المقدمة، 
[13]- المقدمة، 
[14]- الموافقات، .
[15]- المقدمة، 
[16]- الموافقات، 
[17]- الموافقات، 
[18]- المقدمة، 
[19] - التقريب والإرشاد، 
[20] - التقريب والإرشاد، 

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة مقاصد
تصميم : معاد برادة