السبت، 25 أبريل 2020

منهجية تراتيب أصول الفقه عند أصوليي المالكية. الجزء الأول

حدد الإمام  القرافي موضوع أصول الفقه في نفائسه في "الأدلة الموصلة للأحكام الشرعية، وأقسامهاواختلاف مراتبها، وكيفية الاستدلال بها على الأحكام الشرعية على وجه الإجمال دون التفصيل، وكيفية حال المستدل بها"، وبهذا ينحصر عنده موضوععلم أصول الفقه كله في ثلاثة أجزاء:" الأدلة والاستدلال، وهو باب التعارض والترجيح، وصفة المستدل، وهو باب المجتهد والمقلّد، والمفتي والمستفتِي"



وقد انصبت عناية أصوليي المالكية على هذه المواضيع أو الأجزاء الثلاثة لعلم أصول الفقه وهي: الأدلة وكيفية الاستدلال وحال المستدل، مع تباين في طريقة التقسيم، كما يتبين ذلك من خلال المناهج والنماذج التالية، بدءا من القاضي الباقلاني ومرورا بالباجي وابن رشد وابن الحاجب وابن جزي والشريف التلمساني وانتهاء بالإمام الشاطبي

منهجية القاضي أبي بكر الباقلاني(403هـ)


يحصر القاضي الباقلاني أصول الفقه في المباحث التالية:
 الأول: الخطاب الوارد في الكتاب والسنة على مراتبه. ويدخل في الخطاب الأمر والنهي والخصوص والعموم والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والمطلق والمقيد ولحن الخطاب ومفهومه وفحواه، ودخل فيه دليل الخطاب على قول مثبتيه، ومراتب البيان.
ووجه تقديم الخطاب الوارد في الكتاب والسنة راجع إلى أن جميع الأحكام الشرعية مودعة في الكتاب والسنة نطقا أو مفهوما أو معنى مودعا فيهما.
وثانيها، الكلام في حكم أفعال الرسول عليه السلام الواقعة موقع البيان لمجمل ما في الكتاب والسنة، أو ابتداء إثبات حكم بها.
وإنما جاء الكلام في الأفعال النبوية الواقعة موقع البيان ثانيا في الرتبة، لأنها بمثابة أقواله الواردة لبيان الأحكام. ويلي ذلك بعض الأخبار المروية عن الرسول عليه السلام. وهو المبحث الثالث.
وثالثها، القول في الأخبار وطرقها وأقسامها.
ورابعها، بعض أخبار الآحاد الواردة بشروط قبولها في الأحكام.
وأخر هذا عما قبله للفرق بينهما من حيث أن الحكم المعلوم من سنته متعلق بنفس قوله وسنته، والحكم بما لم يثبت منها مما رواه الثقات، ونظن أنه قاله متعلق برواية الرواة، وبذلك صار خبر الواحد أصلا يخالف السنة المعلومة.
وخامسها، الإجماع. لأن حجيته تثبت بعد الرسول عليه السلام وبعد استقرار أحكام الكتاب والسنة، ولأجل أن ثبوت حجته منتزع منهما ومردود إليهما.
وسادسها: القياس، وعرفه بأنه" المعاني المودعة في الأصول التي إذا ثبت تعلق الحكم بها وجب القياس على المعاني المودعة فيها."
وإنما وجب تأخيره عما تقدمه من الأدلة لأجل أنه إنما يثبت كونه أصلا ودليلا بالكتاب والسنة والإجماع، ولأن استعماله في مخالفة ما تقدم عليه من الأدلة باطل محظور، وإنما يصح إذا لم ينف ما ثبت بهما حكمه.
وسابعها: صفة المفتي والمستفتي والقول في التقليد.
وإنما وجب تقديم القياس على هذا الأصل، لأجل أن المفتي إنما يصير مفتيا يجوز الأخذ بقوله إذا عرف القياس وما به يثبت وما يجب من أحكامه في مواضع استعماله، ثم يفتي بعد ذلك. فيجب أن يكون العلم بالقياس حاصلا له حتى يكون لعلمه به مفتيا.
وإنما صار القول في صفة المفتي والمستفتي من أصول الفقه لأجل أن فتواه للعامي دليل على وجوب الأخذ به في حال وجوازه في حال. فصارت فتواه للعامي بمثابة النصوص والإجماعات وسائر الأدلة للعالم، ولأنه لا يكون قوله دليلا للعامي يجب الأخذ به أو يسوغ ذلك له إلا بعد حصوله على صفة من تجوز فتواه وإلا حرم عليه الأخذ بقوله.
وثامنها: الحظر والإباحة، ولاسيما على القول بأنهما حكمان شرعيان. ومن قال إنما يعلم حكم الحظر والإباحة من جهة العقل لا يجعل الكلام في هذا الباب من أصول الفقه، والأولى أن يكون من أصوله لأجل حاجة العالم متى فقد أدلة الشرع –على مراتبها- إلى إثبات حكم الفعل أن يقر أمره على حكم العقل فيه، فإن لم يعرف حكم العقل فيه لم يدر على ماذا يقره.
ولهذه الأصول لواحق تتصل بها، وليست منها على ما نبينه من بعد.
قد يكون الباقلاني أول من أرشد إلى هذه المباحث الثمانية وحصر عددها وقرب وجه ترتيبها بهذه الدقة وعلى هذا النسق، وهذه المباحث هي التي سينكب عليها الدرس الأصولي في المصنفات الأصولية.
وقد أعاد ابن عقيل في الواضح هذا الترتيب بنصه وحرفه.

منهجية الإمام الباجي(ت478هـ)


جمع الإمام الباجي أصول الفقه في مدخل وفصلين تمهيديين وأربعة أبواب، وسأقارن منهج الباجي بمنهج الإمام الغزالي، لما تبين لي من التقارب والتقاطع بين المنهجين:
أما المدخل فتحدث فيه الباجي عن الدافع إلى تأليف كتاب"الإحكام"، في حين خصص الفصل التمهيدي الأول لبيان الحدود التي يحتاج إليها في معرفة الأصول، وخص الثاني لبيان الحروف التي تدور بين المتناظرين وتشتد الحاجة في الفقه إلى معرفتها.
وقد يكون البدء ببيان الحدود وتحديد المفاهيم الضرورية في علم الأصول، توجها جديدا في هذا العلم، انتهجه الباجي في "الإحكام"و"المنهاج"، ولا شك أن تحديد مداليل المصطلحات الخاصة بتخصص معين، يعتبر أهم المداخل الأساسية وأول المفاتيح التي تفتح مغاليق العلم.
وأما الأبواب الأربعة، ففصل الباب الأول المخصص للكلام في" الأصل" إلى ثلاثة أصول: الكتاب والسنة[1] والإجماع. وقد تطرق الغزالي إلى أدلة الأحكام في االقطب الثاني.
وقسم الباجي الباب الثاني المخصص للكلام في "معقول الأصل" إلى خمسة أصول: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب وهو مفهوم المخالفة، والاستدلال بالحصر، والقياس. وتحدث عن الاستحسان ضمن مباحث القياس، وعرج على بعض أوجه الاستدلال بالقياس ومنها: الاستدلال بالأولى والاستدلال بالعكس والاستدلال بالقرائن.
 وقد تحدث الغزالي عن المنظوم والفحوى والقياس في القطب الثالث وهو: كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول
وتطرق الباجي في الباب الثالث إلى استصحاب الحال. تناول فيه عدة محاور وهي: حكم الأشياء على الأصالة، والاستحسان، والمنع من الذرائع، وحكم استصحاب الحال، والحكم بأقل ما قيل، والدليل يجب على النافي وجوبه على المثبت.
دليل العقل والاستصحاب عند الغزالي هو الأصل الرابع عنده بعد الأصول الثلاثة، وتحدث فيه أيضا عن مسألة: النافي هل عليه دليل، تحدث عن هذا في "أدلة الأحكام".
وختم الباجي مؤلفه الأصولي بالباب الرابع الذي خصصه للكلام في فصلين: فصل في الاجتهاد وفصل في الترجيح، وقسمه إلى ترجيح الأخبار وترجيح من المعاني.  ويلاحظ إدراج الباجي الترجيح ضمن مباحث الاجتهاد، وجعله تاليا له، خلافا للعديد من الأصوليين الذين قدموا مبحث الترجيح وأخروا مبحث الاجتهاد.
وقد تكلم الغزالي في الاجتهاد والتَّرْجِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ في القطب الرابع.
وبهذا يكون الإمام الباجي قد ألم بمجموع مباحث الأصول أحسن إلمام، وأحكم فصولها أتم إحكام، فأتى "الإحكام" غاية في الإتقان شكلا وتبويبا وترتيبا وتنسيقا. وبهذا التقسيم تتبين الدقة المنهجية في التصنيف والتبويب والترتيب ، فالباب تندرج تحته فصول والفصول تنضوي تحتها أصول أو مسائل. وتنمحور الفصول حول: التعريفات والحدود والمفاهيم، وكذا أقوال العلماء وأدلة الجمهور والمخالفين في المسائل الأصولية المعروضة.
فقد قسم الباجي مصنفه الأصولي إلى مدخل وثلاثة أقطاب هي: الأصل ومعقول الأصل واستصحاب الحال، وقسم الغزالي مستصفاه إلى"مقدمة وأربعة أقطاب، المقدّمة لها كالتوطئة والتمهيد، والأقطاب هي المشتملة على لباب المقصود"[2].


منهجية ابن رشد الحفيد(ت595هـ)


يقول ابن رشد في بيان أقسام أجزاء مختصره الأصولي: "فأما أجزاء هذه الصناعة بحسب ما قسمت إليه في هذا الكتاب فأربعة أجزاء: فالجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام, والثاني في أصول الأحكام والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل, وكيف استعمالها. والرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه"[3].
يقسم ابن رشد مختصره الى أربعة أجزاء، وهي:
الجزء الأول: وقسم النظر فيه إلى أربعة أقسام: وهي النظر في حد الحكم, وفي أقسامه، وفي أركانه, وفي مظهره .[4]
الجزء الثاني: وخصصه للنظر في الأصول التي تستند إليها هذه الأحكام ومنها تستنبط، وهي أربعة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، ودليل العقل على النفي الأصلي، وتسمية مثل هذا أصلا تجوز، إذ ليس يدل على الأحكام بل على نفيها[5]. 
الجزء الثالث: وينقسم بحسب الأشياء التي يقع بها الفهم عن النبي-صلى الله عليه وسلم-، وذلك إما لفظ أو قرينة.
واللفظ ينقسم إلى ما يدل على الحكم بصيغته , وإلى ما يدل بمفهومه ومعقوله
والقرينة تنقسم إلى قسمين: أحدهما فعله - صلى الله عليه وسلم - , والآخر إقراره على الحكم.
الجزء الرابع: وضمنه ثلاثة فصول: فصل في الاجتهاد، وفصل في التقليد، وفصل في ترجيح الأدلة.
والنظر في الجزء الثاالث-حسب ابن رشد- أخص بصناعة الأصول، وينبغي أن يقتصر الأمر فيه وفقا لمنهج ثنائي، وهو :
-                   وضعها في إطار الدراسة المقارنة بين المذاهب المشهورة.
-                   رسم الاختلاف الواقع فيها، ومعرفة القوانين المعتمدة في الاستنباط بحسب الآراء المتعددة في تلك الأصول.



[1] - تتناول في هذا الأصل حكم المفصل وحكم المجمل، وقسم الكتاب العزيز إلى حقيقة ومجاز، خصص فصلا للحقيقة بقسميها: المفصل والمجمل، وفصلا للمجاز بقسميه: غير المحتمل والمحتمل.  وتحدث عن المحتمل بضربيه: الظاهر والعام، فتناول:
الظاهر وأنواعه، فتكلم عن الأمر والنهي، فتطرق إلى مسائل الأمر ، وكذلك إلى مسائل النهي.
 العموم وأقسامه وأحكامه، تحدث فيه عن مسائل التخصيص، ومسائل الاستثناء، والمطلق والمقيد.
حتى إذا انتهى من المفصل انتقل الى الحديث عن حكم المجمل.
والسنة عند الباجي تشمل الأفعال والأخبار والرواية. لذلك تكلم في هذا الأصل عن: أحكام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام الأخبار، وأحكام الناسخ والمنسوخ، والتعبد بوجوب العمل بخبر الآحاد، وصفات العدالة، وكذا صفة الرواية وأحكامها. (نفس المواضيع نجدها عند الغزالي في المستصفى مع اختلاف في صياغة العبارة: الباب الأول في إثبات التعبد بخبر الواحد مع قصوره عن إفادة العلم، الباب الثاني في شروط الراوي وصفته، الباب الثالث في الجرح والتعديل، الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه).

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة مقاصد
تصميم : معاد برادة