لا تخفى مكانة الإمام مالك رحمه
الله، ولا ينكر فضله وقيمته إلا جاهل أو جاحد،
وقد اعترف له بسمو المنزلة وعلو المكانة أئمة الإسلام الأعلام، كيف لا وهو
المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"يوشك أن يضرب الناس أكباد
الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"[1]،
وقد تأول في هذا الحديث سفيان بن عيينه أنه عالم المدينة الذي بشر به الرسول عليه
السلام، وقال سفيان: كانوا يرونه مالكا[2].
وقد قال الشافعي: إنه النجم في الآثار وأمير المؤمنين في السنن، وقاله فيه أئمة
الحديث ومخالفوه من أصحاب أبي حنيفة[3]
لا تخفى مكانة الإمام مالك رحمه
الله، ولا ينكر فضله وقيمته إلا جاهل أو جاحد،
وقد اعترف له بسمو المنزلة وعلو المكانة أئمة الإسلام الأعلام، كيف لا وهو
المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"يوشك أن يضرب الناس أكباد
الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"[1]،
وقد تأول في هذا الحديث سفيان بن عيينه أنه عالم المدينة الذي بشر به الرسول عليه
السلام، وقال سفيان: كانوا يرونه مالكا[2].
وقد قال الشافعي: إنه النجم في الآثار وأمير المؤمنين في السنن، وقاله فيه أئمة
الحديث ومخالفوه من أصحاب أبي حنيفة[3]
لقد أنصف محمد بن الحسن عندما
أقر في مناظرة مع الشافعي بأن مالكا أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه ، وأعلم بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأنصف الشافعي رضي الله عنه في قوله : فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا
بهذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس، وفي رواية قال: وصاحبنا لم يذهب عليه القياس ولكنه
كان يتوقى ويتحرى ويريد التأسي بمن تقدمه[7].
يشهد العلماء للإمام مالك بعلو
الكعب في الحديث، واعترفوا له بالإمامة فيه، بخلاف الإمامين أبي حنيفة والشافعي
اللذين وإن سلم "لهما حسن الاعتبار وتدقيق النظر والقياس وجودة الفقه
والإمامة فيه"[8]، فإنه لا يسلم لهما" إمامة
في الحديث ولا معرفة به ولا استقلال بعلمه، ولا يدعيانه ولا يدعى لهما وقد ضعفهما
فيه أهل الصنعة".[9] وقد قال الإمام أحمد لرجل مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ
عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ: مَضَغْتَ كَلَامًا كَثِيرًا، وَرَجَعْتَ مِنْ
غَيْرِ ثِقَةٍ"[10].
يقول الأبياري ردا على الجويني في تفضيله مذهب الشافعي ودعوى معرفته بالسنة
أكثر من غيره:"وأما ما يتعلق بالسنة، ومعرفة االناسخ والمنسوخ، وأسباب
النزول، فغيره هو المشهور بذلك، المعروف به، وهو مالك رحمة الله عليه. وقد أطبق اهل هذا الفن على ان الشافعي رحمه الله لا
يبلغ مبلغ مالك فيه، وقد اجمع علماء
الحديث على ضبط مالك وحفظه وإتقانه للرواية من غير خلاف بين أهل النقل"[11]
ولعل تضعيف الإمام أبي حنيفة في
صناعة الحديث راجع إلى تمسكه بسنن وأحاديث ضعيفة ومتروكة وقوله بتقديم القياس
والاعتبار على السنن والآثار، وتركه نصوص الأصول وتمسكه بالمعقول وتفضيله الرأي
والقياس والاستحسان، ثم تقديمه الاستحسان على القياس، ومبالغته في ذلك "
فأبعد ما شاء" على حد تعبير القاضي عياض[12].
هذا وقد برع الإمام الإمام
الشافعي في تقرير الأصول وتمهيد القواعد وترتيب الأدلة والمآخذ وبسطه ذلك ما لم
يسبقه إليه من قبله، وكان فيه عليه عيالاً، كل من جاء بعده مع التفنن في علم لسان
العرب والقيام بالخبر والنسب، وكل ميسر لما خلق له[13].
لم يسلم الأبياري دعوى الجويني في قوله أفضلية
الشافعي واولويته في العلم بالمصالح والمعاني، المقبول منها والمردود، ورد عليه
دعواه بقوله:" وذلك أن المعاني لا تعتمد أعيانها لذواتها، وإنما تعتمد
لالتفات الشريعة إليها، وليست مستوية في التفات الشريعة. وإذا كانت تقوى بقوة
الشهادة، وتضعف أيضًا على هذا الحد، فكل من كان أعلم بالمنقولات وصحيح الأخبار
وسقيمها، ومعرفة آثار الصحابة ومستنداتهم، وما أضربوا عنه من المعاني، وما قبلوه،
وما قدموه منها، وما أخروه، فهو الأعلم بالمصالح"[14].
أما الإمامان أحمد بن حنبل
وداود الظاهري؛ فإنهما وإن كان يعترف لهما بالإمامة في علم الحديث،" غير
انهما سلكا إتباع الآثار، ونكبا عن طريق الاعتبار[15]،
كما يتبين ذلك من أقوال الإمام أحمد: «لَا يُعْجِبُنِي رَايُ مَالِكٍ، وَلَا رَايُ
أَحَدٍ"، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ " جَامِعُ سُفْيَانَ نَعْمَلُ بِهِ؟
قَالَ: عَلَيْكَ بِالْآثَارِ[16]، كما أنه"لا يسلم لهما الإمامة في الفقه ولا جودة النظر في
مأخذه"[17].
ومما يدلل به القاضي عياض على
مذهبه تفضيل الإمام أحمد ضعيف النقل على صريح القياس، حيث قال أحمد: الخبر الضعيف
عندي خير من القياس"[18]،
ويتعقب القاضي عياض هذا الكلام بقوله: "وبديهة العقل تنكر هذا[19].
أما الإمام داود الظاهري فمشهور
عند العلماء مغالاته في تنكب طريق الرأي والاعتبار " فترك القياس جملة، وأعرض
مما مضت عليه الأئمة من الاجتهاد والاعتبار وسمى ما لم يجد فيه نصاً ظاهراً عفواً،
وأطلق على بعضه الإباحة واضطربت أقوال أصحابه[20].
والإمام أبو
حنيفة وإن كان يوصف ب"اتقاد فطنته، وجودة قريحته، في درك عرف المعاملات،
ومراتب الحكومات" إلا انه وصف أيضا بانه "غير خبير باصول الشريعة"،
بل إن الجويني يستعجب من أن أبا حنيفة" لم يعتن بجمع الأخبار والآثار ليبني
عليها مسائله، ولكنه يوصل الفروع بناء على مايراه، ثم يستأنس مما يبلغه
وفاقا"[21].
"وأما الإمام
مالك، فلا يشق غباره في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار، والأقضية ووقائع الصحابة،
ولا يدرك آثاره في درك سبل الصحابة، والطرق التي منها يتطرق الخلل، وإمكان الزلل
إلى النقلة"[22].
وقد ألمح الشاطبي إلى تبرز الإمام
مالك في صناعة الحديث وتفوقه على الشافعي وأبي حنيفة في معرض استدلاله لإثبات عدم
لزوم أن يكون المجتهد من أهل الاجتهاد في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة؛
لأنه" لَوْ كَانَ كذلك؛ لم يوجد مجتهد إلا في النُّدرة ممن سوى الصحابة، ونحن نُمَثِّلُ بالأئمة الأربعة؛
فالشافعي عندهم مقلِّد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته، وأبو
حنيفةَ كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل
التجارب والطب والحيض وغير ذلك وَيَبْنِي الْحكم على ذلك والحكم لا يستقل دون ذلك الاجتهاد"[23].
أما ما وصف
به الجويني مالكا من كونه" ينحل بعض
الانحلال في الأمور الكلية، حتى يكاد يثبت في الإيالات والسياسات أمورا لا تناظر
قواعد الشريعة، وكان يأخذها من وقائع وأقضية لها محامل على موافقة الأصول بضرب من
التأويل؛ فكان يتمسك بها ويتخذها أصولا، ويبني عليها امورا عظيمة"[24]. فهذا لا يسلمه له علماء المالكية، فقد رد عليه الأبياري
بانه" تخرص منه عليه وتقول"[25].
وما نقله عن
مالك بأنه" أخذ أموالا بغير استحقاق لمصالح إيالية، حتى انتهى إلى ان قال:
"أقتل ثلث الخلق في استبقاء ثلثيهم"[26]، فإنه مردود بعمل الصحابة الذين أدبوا بأخذ المال، "فقد
صح عن عمر رضي الله عنه أن عبدا لحاطب بن بلتعة انتحر ناقة للبراء، فذكر الأمر
لعمر فأحضر حاطبا فقال:" أراك تجيعهم، كم تساوي ناقتك يا براء؟ فقال: كنت
والله يا أمير المؤمنين أمنعها من أربعمائة درهم". فقال: قم يا حاطب فأغرم
ثمانمائة درهم". فهذا تأديب بالمال"[27].
لأجل شهادة الرسول الكريم
واعتراف العلماء بعظيم مكانة الإمام مالك صمم أهل المغرب على اختيار المذهب
المالكي كما جاء عن القرافي في بيان ترجيح مذهب مالك:" ومنها ما ظهر من مذهبه في
أهل المغرب واختصاصهم به وتصميمههم عليه، مع شهادته صلى الله عليه وسلم بأن الحق
يكون فيهم، لا يضرهم من خذلهم إلى أن تقوم الساعة، فتكون هذه الشهادة لهم شهادة
بأن مذهبه حق، فإنه شعارهم ودثارهم لا طريق لهم سواه، وغيره لم تحصل له
الشهادة"[28].
وقد نافح
الأبياري عن إمام دار الهجرة ورد على الكثير من المرامز التي حاول من خلالها إمام
الحرمين الجويني إثبات وتثبيت أفضلية الشافعي على الأئمة كمالك وأبي حنيفة.ومن هذه
المرامز:
أن مالكا من
الموالي، ورد الأبياري هذا بأنه "تخرص وافتراء، ومالك رحمه الله من بني
الأصبح، وهم اهل دين وفضل وعلم بالمدينة...على انه لايتعلق بكونه من الموالي شيء
من التهجين فيما يتعلق بالعلم، وقد كان أعيان التابعين من الموالي، كزيد بن أسلم،
والحسن البصري، وابن سيرين، وغيرهم. فهذا التهجين الذي ذكره الإمام، لم يصر إليه
أحد من أهل الإسلام "[29].
كما انتقد الجويني
على مالك استرساله في القول بالاستدلال المرسل، وتقديم عمل أهل المدينة على
الأحاديث الصحيحة، كما جاء ذلك على لسانه:" وأما مالك فقد كان تداوره على
النصوص، حتى كان معظم أجوبته في المسائل الخالية عن النصوص: لا أدري. وقد اشتهر
مذهبه في استصلاحات مرسلة يراها، انسلت تلك القواعد عن ضبط الشريعة، وقدم مذاهب
أهل المدينة على الأحاديث الصحيحة"[30]، وهي انتقادات أجاب عنها علماء المالكية وغيرهم، وسيأتي في
ثنايا هذه الأطروحة بعض من تلك الإجابات والردود.
وأكثر من هذا
فإن الجويني نسب إلى الإمام مالك أمورا لا يقرها المالكية، فقد حكى عنه في قوله تعالى:ﱡ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ
الْبَفرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا
أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم
بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا
لَصَادِفونَ"ﱠ[31] أنه تعلق
بموجبها، ونزل مذهبه عليها، فحرم ما اقتضت الآية تحريمه، وأحل ما عداه"[32].
وهذا كما يقول
الأبياري:" ليس مذهب مالك، ولا أحد من اصحابه، ولاصائر منهم يصير إلى أن
ماسوى المذكور في الآية حلال"[33].
وبالنسبة لنفس
الآية اعتقد الجويني "النصوصية في كل ما وراء ما اقتضت الآية تحريمه.ولذلك
صعب عليه مذهب الشافعي. ولو كان يراه دالا من جهة الظواهر والعمومات، لم يكن في
مذهب الشافعي إشكال، إذ الأخبار إذا كانت نصوصا يترك لها ظواهر الكتاب"[34].
ويعلل الأبياري
سبب قول الجويني بنصوصية الآية السابقة قائلا:" والذي غره حتى اعتقد
النصوصية، اشتمال الكلام على جهات من التنصيص، منها اصل النفي في الآبة ، فأصل
النفي معلوم، ثم وقع استثناء أشياء أربعة، وذلك أيضا معلوم، فلما اشتمل الكلام في
أوله على امر مقطوع به، واشتمل آخره على مثل ذلك، تطرق الوهم إلى الأمر
المتوسط، وهو اعتقاد النصوصية في تعميم
نفي التحريم، وذلك غلط، وليس عندنا في تحريم المنفي إلا نكرة واقعة في سياق النفي،
وهي ظاهرة في التعميم، ليست ناصة فيه"[35]. وزاد الأبياري:"صدق الشافعي فيما ذكره من تنزيل الآية
على سبب[36]. ومن مذهبه ان العام إذا ورد على سبب مخصوص، اختص بسببه.
والسبب عنده،
أن الآية سيقت لغرض الرد عليهم فيما أحلوه، وليس المراد منها إثبات حل ما سواه،
فكانوا يقولون: هذه الأشياء الأربعة حلال، فكأنه عز وجل قال: هي حرام، ولكن عبارة
النفي والإثبات في هذا أبلغ فيما يتعلق بتحريمها"[37].
إن شدة اللهجة
وحدة اللسان من الجويني لم تقتصر على الإمام مالك، ولكنها طالت الإمام أبا
حنيفة، فشرع في ذكر بعض من اجتهاداته التي لم يحالفه فيها الصواب، وطفق ينعته
بأوصاف فيها الكثير من التجني على الإمام والحط من قدره، فوصفه بأنه:"ليس من
المجتهدين اصلا، لأنه لم يعرف العربية أصلا...ولم يعرف الأحاديث حتى رضي بقبول كل
سقيم، ومخالفة كل صحيح، ولم يعرف الأصول
حتى قدم الأقيسة على الأحاديث.. ثم ترقى من نفي القصاص إلى إنكار الحس، فحكم بكونه
خطأ، حتى ضرب العقل على العاقلة، وأثبت فيه الكفارة، مع نفيه الكفارة عن العمد...
وخرم فقه العبادات بترتيب أقل مايجري من الصلاة، وأبطل مقصود الزكوات، حيث انكر
وجوبها على الفور، ثم أسقطها بالموت...ولم ير القصاص في القتل بالمثقل"[38].
ولم يسلم من نقد الجويني الحاد سوى الإمام الشافعي الذي يرى فيه إمام
الأئمة "وأما الشافعي فقد استبان تبحره في اللغة...أما الأصول فهو من أول من
صنف فيه، وأما فقه النفس وغيره، فيتبين في كيفية ترتيب الأدلة "[39] وذكر ترتيب الشافعي للأدلة كما أوردها
في كتاب "الرسالة".
ومن
بديع الاستنتاجات على ترجيح مذهب مالك حتى عند الحنفية والشافعية ما ذكره
"الفقير السالك" أن الحنفية إذا سئلوا عن الترجيح، قالوا: المرجح مذهبنا
وإمامنا. ثم من؟ قالوا: ثم مالك ومذهبه.
وإذا
سئل الشافعية عن الترجيح، قالوا: المرجح مذهبنا وإمامنا. ثم من؟ قالوا: ثم مالك
ومذهبه على من سواه". ثم قال معلقا:"فكل من الفريقين قد حكم لمالك
ومذهبه بالترجيح على من سوى مذهبه. ودعوى كل لمذهبه بالترجيح على مالك ومذهبه لا
تسمع إلا بدليل، ولم يجد الجميع أدلة مثل هذه الأدلة المذكورة.
ولو
سئل المالكية لسكتوا ورجحوا مذهبهم واستدلوا على الترجيح بما تقدم بعضه ثم سووا
بين الأئمة المجتهدين في وجوب الاقتداء بهم وعدم الخروج عن مذاهبهم"[40].
وإذا
كان كل من الحنفية والشافعية يعترفون لمالك ويحكمون له ولمذهبه بالترجيح على من
سوى مذهبهم. فان دعوى الفريقين بترجيح مذهبهما على مالك ومذهبه تفتقر الى دليل.
أما
المالكية فانهم يرجحون مذهبهم ويستدلون على هذا الترجيح بالأدلة، ومع ذلك لا
يفرقون بين الأئمة الفضلاء في وجوب الاقتداء بهم.
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق