العمران عند ابن خلدون مفهوم إسلامي أصيل، يقصد به اعتمار الإنسان الخليفة للأرض بأمر من الله سبحانه، الذي أنشأه منها واستعمره فيها، لتحقيق مقاصد الاستخلاف كما أرادها المستخلف جل وعلا. ولعله مأخوذ من قوله تعالى في كتابه العزيز على لسان نبي الله صالح عليه السلام هاتفا بقومه:" ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه "
وقوله تعالى مستنكرا إغفال سنن العمران ومنها هلاك الأمم الغابرة رغم آثارها وقوتها وعمارتها للأرض أحقابا طويلة بسبب الظلم المؤذن بإخراب العمران، قال تعالى:" أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" 2 .هذا ما يبرزه ابن خلدون وهو يتحدث عن اختلاف أجيال أمم العالم ويتكلم على اجناسهم، ف" الله سبحانه وتعالى اعتمر العالم بخلقه وكرم بني آدم باستخلافهم في أرضه، وبتهم في نواحيها لتمام حكمته، وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهارا لآياته". أما المقصد من
هذا التنوع والاختلاف بين الأمم يقول ابن خلدون:"...ليتم أمر الله في اعتمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق وحاجات المعاش بحسب خصوصياتهم ونحلهم فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية إن في ذلك لآيات للعالمين" 3 .
وبهذا العمران للأرض بنوع الإنسان يمكن التعاون بينهم، وتتحقق مقاصد الاستخلاف،:"وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولاتتم حياته، ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له الق وت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه.فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني، وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده لهم من اعتمار العالم
بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران الذي جعناه موضوعا لهذا العلم" 4 .
يقر ابن خلدون بتأسيسه لعلم جديد غير مسبوق إليه، مبديا استغرابه عن عدم التنبه إليه، وإغفال الحديث عنه، وفي هذا يقول:" ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم" 5 ، ويستدرك ابن خلدون هذا القول في تواضع العلماء الفضلاء مضيفا:" ولعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه، ولم يصل إلينا؛ فالعلوم كثيرة، والحكماء في
أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل" 6 .
ولم يقتصر إبداع ابن خلدون في مقدمته على اختراع علم جديد هو علم الاجتماع الإنساني، بل إن هذا الإبداع طال أيضا المنهج المتبع في كتابه، ذلك أنه سلك في مقدمته منهجا جديدا ومسلكا فريدا لم يعهد عند سابقيه ممن ألفوا في علم التاريخ، يقول مغتبطا بهذا الفتح الجديد والعلم الوليد:" ولما طالعت كتب القوم ، وسبرت غور الأمس واليوم...فأنشأت في التاريخ كتابا...وأبديت منه لأولية الدول والعم ران عللا وأسبابا...وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا، واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا، وطريقة مبتدعة وأسلوبا، وشرحت فيه من أحوال العمران
والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها...حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك..." 7 .
استقلالية علم العمران وخصوصياته:
لما كان لكل علم ناشئ دواع ودوافع تقف وراء إنشائه، ومقاصد يروم تثبيتها وغايات يرمي إلى تحقيقها، فإن علم الاجتماع الخلدوني ليس بدعا في العلوم، وهو وإن كان يلتقي مع باقي العلوم في بعض المسائل على العموم، إلا أنه يختلف عنها في مسائل أخر؛ إذ أن لكل علم خصوصية ليست لغيره تميزه عما سواه، وفي هذا يقول ابن خلدون:"وإذا كانت كل حقيقة متعقلة طبيعية يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها)القوانين(، وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه" 8 .
فما هو موضوع علم الاجتماع الخلدوني، وما هي مسائله؟يجيب ابن خلدون:" وكأن هذاعلم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو نقليا" 9، ويضيف في موطن آخر:" وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها..." 10 .
وعن سبب الغفلة عن هذا العلم وهجرانه برغم ما له من قيمة كبرى، وأهمية قصوى يرى ابن خلدون أن ذلك يعزى إلى أن" الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات 11 ،وهذا)علم العمران( إنما ثمرته)غير المباشرة( في الأخبار فقط)أي في صحة الأخبار...(وإن كانت مسائله في ذاتها واختصاصها شريفة)أي وإن كان غرضه الذاتي، وهو الوقوف على طبيعة الظواهر الاجتماعية وما تخضع له من قوانين غرضا شريفا(" 12 .
لعلم العمران غرضان، غرض غير مباشر مقصود بالتبع يتمثل في تصحيح الأخبار، وغرض ذاتي مقصود بالأصالة وهو استخلاص القوانين المتحكمة في الظواهر الاجتماعية، إلا أن العلماء التفتوا إلى المقصد التابع وأهملوا المقصد الأصلي ولم يراعوه.
علاقة علم العمران بالقرآن والمقاصد عند ابن خلدون.
علاقة علم العمران بالقرآن:
فكر ابن خلدون العمراني فكر قرآني، منطلقاته إسلامية وأصوله قرآنية كما شهد بذلك مفكرون كثيرون.
يذهب أحد الباحثين إلى أن علم الاجتماع الخلدوني" هو نتاج التفكير العلمي الإسلامي الذي ينشد فهم سنن الله في العالم المادي والعالم الاجتماعي على حد سواء" 13 . وهذا يتماشى مع الثقافة الإسلامية الشرعية التي تلقاها العلامة ابن خلدون وقام بتدريسها، وانتماءه المالكي، وعقيدته السنية، إذ لا يمكن لهذه الثقافة إلا تنعكس على فكر الرجل، على عكس ما يكتبه ويروجه المرضى بالعصاب الإسقاطي الذين يجردون ابن خلدون من انتمائه الإسلامي وينسبونه للمادية. يصف أحد الباحثين ابن خلدون بأنه "عالم عربي، مسلم، ملتزم بفهم السنة والجماعة، على المذهب المالكي، والكلام الأشعري، ولذلك يتوقع أن تكون رؤيته للعالم بمجمل الخصائص العامة لرؤية العالم الدينية الإسلامية، ومن ثم لا نبرر قبول بعض الآراء الشاذة التي اتهمته بالشعوبية أو التشيع، أو الاعتزال، أو المذهب التجريبي المادي الجدلي" 14 .
ومن الدلائل على العلاقة الحميمية للفكر الخلدوني بالقرآن كثرة الاستشهادات القرآنية التي يرصع بها صاحب المقدمة مباحث وفصول كتابه، فهو لايكاد يناقش فكرة إلا ويستدل عليها بآي من الذكر الحكيم، راجعا بذلك إلى أصوله في عصر عرف البعد عن الأصول، والانحطاط وغلبة التقليد.
يقول الدكتور عبد الحليم عويس متحدثا عن العصر الخلدوني:" لقد كان عصره عصر تقليد وجمود، لكن ابن خلدون أحسن القفز إلى المصادر الأصلية، بعيدا عن ضغط الواقع الجامد، وعن وطأة اللحظة التاريخية بكل أثقالها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحسن الاتصال المباشر بالقيم والأفكار الدائمة الحياة في القرآن، والسيرة، والسنة، وعصور الألق والازدهار" 15 .
وهذا بخلاف ما قيل عن ابن خلدون من أنه " كان في تناسق مع أساسيات المنهج الفكري السائد في عصره لم يتمرد عليه" 16 .
وهل جاء تأليفه للمقدمة إلا ثورة على الفكر التقليدي، وتمردا على الوضع الساكن. على العكس تماما يرى باحث آخر في ابن خلدون التمرد على الواقع الخامل، واصفا إياه بأنه" لم يكن رجلا يستسلم للفكر الساكن، أو الواقع الجامد، كما لم يكن رجلا يقف متفلسفا أمام الوقائع، أو مسجلا لها وحسب، بل كان رجلا من صناع التاريخ" 17 .
بيد أن بعض الباحثين شذ عن هذا المنحى، وشرد عن هذه الوجهة، وذهب إلى استغراب حالة ابن خلدون، التي قال بأنها تعرف انفصالا عن القرآن وبعدا عنه، حيث يرى بأن "القرآن فيما يبدو غائب عن منهجه الفكري وتفصيلاته البحثية" 18 .
هذا الغياب تتحدد تجلياته حسب الدكتور أحمد صبحي منصور في عدم إجادة ابن خلدون الاستشهاد بآي القرآن الكريم ف"استشهاداته القرآنية في المقدمة ضئيلة" 19 ، وقد يأتي" بآية بعيدة الصلة في الموضوع" 20 أو يأتي"باستشهاد قرآني يتناقض تماما مع مقصده مما يدلل على ابتعاده التام عن مضمون الآية" 21 .
والحق أن ما ذهب إليه الكتور مجاف للحقيقة مجانب لها؛ إذ كيف يليق بعالم كبير مثل ابن خلدون الذي درس القرآن وعلوم التفسير والقراءات أن يكون القرآن الكريم بعيدا عن بؤرة تفكيره، غائبا عن منهجه الفكري، أم كيف يصدق هذا الاتهام على رجل تقوم نظريته في العمران أساسا على القرآن، فهي نظرية قرآنية، أو كما يقول الأستاذ الدكتور مصطفى الشكعة" إسلامية المنهج والأس والمبتدأ والمنتهى" 22 .
أما قول الدكتور صبحي منصور بأن استشهاداته الفرآنية ضئيلة فهذا تكذبه فصول المقدمة ومباحثها، فالناظر المتامل في المقدمة يجدها طافحة بالاستشهادات القرآنية والحديثية، ولو قمنا بإحصائها لطال هذا البحث وخرج عن مقصوده.
وأما قوله بأنها بعيدة الصلة بالموضوع المتحدث عنه، فهذا القول أيضا لا مستند له إلا التحكم، ولا تعضده الأدلة. فجميع الاستشهادات القرآنية التي يستدل بها ابن خلدون تمت إلى الموضوع المتحدث عنه بصلة، قد تظهر أحيانا وقد لا تظهر، ولكن الصلة موجودة على كل حال. والمثال التي يستدل به الدكتور على هذا الرأي، هو استدلال ابن خلدون على وجوب السعي للرزق بقوله تعالى: ) فابتغوا عند الله الرزق( 23 ، بدل أن يستشهد بقوله تعالى: )فامشوا في مناكبها وكلوا (من رزقه 24 ، 25 . وهذا المثال حجة على الدكتور وليس حجة له. فما المانع من الاستدلال على
وجوب السعي في طلب الرزق بقوله تعالى)فابتغوا عند الله الرزق(، ألا تدل هذه الآية على المعنى المراد؟ أليست تدعوا إلى ابتغاء وطلب الرزق عند الله؟ نعم إن سياق الآية يوضح أن هذه الآية من قول إبراهيم عليه السلام يجابه بها قومه الذين عطلوا عقولهم وعبدوا أصناما لا تملك لهم رزقا، ولا تجلب لهم نفعا، قال تعالى:) وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إن الذين تعبدون مندون الله لايملكون لكم رزقا، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ( 26 ، ولكن السياق لا يمنع من الاستدلال بها في مقام الدعوة إلى اكتساب الرزق. كما لا يمنع سياق قوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" 27 من الاستدلال بها على تحريم كل الخبائث الضارة مع أن سبب نزولها ليس في هذا المعنى.
في الجزء الثاني نتطرق إلى : علاقة علم العمران بعلم المقاصد
المصادر والمراجع المعتمدة:.
1 سورة هود، الآية - 60 .
2 سورة الروم، الآية - 8 .
3 تاريخ ابن خلدون، ج - 2 ،الكتاب الثاني، المقدمة الأولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم.
4 لمقدمة
5 المقدمة
6 المقدمة، . اغتباط بتأسيس علم جديد متبوع بتواضع العلماء، ويشترك في هذا الاغتباط علماء كان لهم
الفضل في ابتداع علوم اعتبرت كشفا وفتحا كإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني، وأبي إسحاق
الشاطبي، جاء في الفكر الأصولي:" إن الغبطة بمثل هذا الاكتشاف قاسم مشترك بين كل من الجويني والشاطبي
في مجال المقاصد الشرعية، وابن خلدون في ميدان مقاصد التاريخ والعم ا رن البشري". الفكر الأصولي واشكالية
السلطة العلمية في الإسلام، ق ا رءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، عبد المجيد الصغير
7 المقدمة
8 المقدمة
9 المقدمة
10 المقدمة
11 يرى الإمام أبو حامد الغزالي أن" شرف العلم يدرك بشيئين: أحدهما: بشرف ثمرته. والآخر: بوثاقة دلالته. وذلك كعلم -
الدين، وعلم الطب؛ فإن ثمرة علم الدين الحياة الأبدية التي لا آخر لها، فكان أشرف من علم الطب الذي ثمرته حياة البدن إلى غاية الموت. وأما الحساب إذا أضفته إلى الطب، فالحساب أشرف باعتبار وثاقة دلالته، فإن العلوم بها ضرورية غير متوقفة على التجربة بخلاف الطب. والطب أشرف باعتبار ثمرته: فإن صحة البدن أشرف من معرفة كيفية المقادير. والنظر إلى شرف الثمرة أولى من النظر إلى وثاقة الدليل" ميزان العمل.
12 المقدمة
13 المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع.
14 رؤية العالم عند عبد الرحمن ابن خلدون، مقال للدكتور فتحي حسن ملكاوي بمجلة الكلمة، السنة الثالثة عشرة، خريف -2006 م، 1426 ه، ص 87 .
15 التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون، الدكتور عبد الحليم عويس
16 مقدمة ابن خلدون دراسة أصولية تاريخية
17 التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون
18 مقدمة ابن خلدون د ا رسة أصولية تاريخية، الدكتور أحمد صبحي منصور
19 نفسه
20 نفسه
21 نفسه
22 الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته، الدكتور مصطفى الشكعة
23 سورة العنكبوت، الآية - 16 .
24 سورة الملك، الآية - 15 .
25 يقول الدكتور:"وهذه الآية جاءت في خطاب إب ا رهيم عليه السسلام لقومه المشركين الذين تكوا عبادة ال ا رزق ولجأوا -
لغيره، فالاستشهاد هنا ليس في محله، وان كان قريبا بعض الشيء من الموضوع".مقدمة ابن خلدون، د ا رسة أصولية تاريخية
للدكتور أحمد صبحي منصور
26 سورة العنكبوت، الآية - 16 .
27 سورة البقرة، الآية - 194 .
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق