الأحد، 26 أبريل 2020

رعاية المصالح والمفاسد في علم العمران عند ابن خلدون . الجزء الأول

المصالح، المفاسد، العمران، ابن خلدون





اهتمام ابن خلدون بالمصالح.

ثمة علاقة تلازمية بين المقاصد والمصالح، ذلك أن وظيفة المقاصد الشرعية تحقيق مصالح الأحياء في مختلف ميادين الحياة الحيوية، والمقاصد تعتبر معيارا ضابطا تعاير به المصالح، وحاكما عليها إما بصلاحيتها وملاءمتها لمقاصد الشارع الحكيم، أو منافرتها وعدم ملاءمتها وانسجامها مع تلك المقاصد الشرعية. المقاصد باختصار معيار لضبط المصالح وتقنينها حتى لاتبقى المصالح مرسلة بلا ضابط ولا رابط. واستجلاب المصالح الشرعية المنضبط بمقاصد الشرع مؤشر على حفظ المقاصد. يقول الدكتور يوسف أحمد البدوي:"ثم إن مقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد صنوان وتوامان لا ينفصمان، إذ جلب المصالح حفظ للمقاصد من جانب الوجود، ودرء المفاسد حفظ للمقاصد من جانب العدم"[1].

تعريف المصلحة:

يعرف الإمام الشاطبي المصلحة بقوله:"وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعما على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتياد لايكون، لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها"[2].
ويقول العز بن عبد السلام في تعريف المصلحة والمفسدة:" والمصلحة لذة أو سببها أو فرحة أو سببها، والمفسدة ألم أو سببه أو غم أو سببه، ولم يفرق الشرع بين دقها وجلها وقليلهما وكثيرهما كحبة خردل وشق تمرة وزنة برة ومثقال ذرة،"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"[3]،[4].
ويعبر عن المصلحة بتعابير متعددة منها ما ذكره العز بن عبد السلام في قوله:"ويعبر عن المصالح والمفاسد بالمحبوب والمكروه والحسنات والسيئات والعرف والنكر والخير والشر والنفع والضر والحسن والقبح"[5].

وقد تطلق المصلحة أيضا على الطيبات، كما تطلق المفسدة على الخبائث، ولعل هذا ما يفهم من كلام الإمام الشاطبي الذي قرن بين المصالح والطيبات:" ألا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح، التي بثها في هذا الوحود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم"[6]. 
وقد بين القرآن الكريم أن المقصود الشرعي من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو تحليل الطيبات والمصالح، وتحريم الخبائث والمفاسد. قال جل في علاه في بيان صفات المؤهلين من عباده لتشملهم رحمته الواسعة بأنهم:"الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث"[7].

والذي يظهر لي أن اللفظ القرآني الموازي للفظ المصلحة هو لفظ الرحمة. فالرحمة من أبرز صفات الكتاب المنزل والنبي المرسل، فلا يكاد يذكر وصف من أوصاف القرآن إلا ويذكر وصف الرحمة.
فالقرآن كما يصفه ربنا عز وجل"شفاء ورحمة للمومنين"[8]، والرسول الخاتم عليه صلوات الله وسلامه مبعوث"رحمة للعالمين"[9].
تعاليم القرآن ووصاياه جاءت رحمة بالعباد، وكلف محمد صلى الله عليه وسلم ببث هذه الرحمة، التي لا تتحقق إلا بجلب المصالح لهم، ودفع المفاسد عنهم، لأن في فعل المصالح المشروعة الرحمة والشفاء، وفي فعل المفاسد الممنوعة الشقاء.
والرحمة يقابلها السوء والضراء، قال تعالى:"قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة"[10]. وقال تعالى:" ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي"[11]. 
الرحمة: ما فيه المصلحة والمنفعة والسراء، وهي كل ما يفرح وينفع ويرجى نواله. ويقابلها المفسدة وهي: ما فيه السوء والضراء، ما يسوء ويضر ويرجى زواله.

ويعبر ابن خلدون عن المصالح بالخير وعن المفاسد بالمضار والشر. وهذا التنوع في التعبير عن المصالح فيه دلالة أخرى على تمكن الرجل من علم المقاصد.
جاء تعبير ابن خلدون عن المصالح بالخير وعن المفاسد بالمضار والشر في معرض تعليله لتحريم صناعة النجوم بأنها تنطوي على الكثير" من المضار في العمران الإنساني بما تبعثه في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقا لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق، فيلهج بذلك من لامعرفة له، ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها..."[12].
أما الاعتراض الذي قد يعترض به على هذا التعليل المصلحي، والتحليل المقاصدي لحظر صناعة النجوم فيذكره ابن خلدون في هذا النص ويرد عليه بقوله:" ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر، بمقتضى مداركهم وعلومهم، فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه، ودفع أسباب الشر والمضار"[13].

تأكيده على رعي الشريعة للمصالح.

ينص ابن خلدون على أن أحكام الشرع إنما جاءت لرعاية مصالح الخلق وجلب الخيرات لهم، كما تشهد بذلك نصوصه التالية:
جاء هذا في معرض تعريفه للسياسة والملك بأنهما:"كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيد أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع..."[14].
ومقصد الخلافة الشرعية حسب ابن خلدون يتركز ويتمركز حول حمل العباد على ما فيه المصلحة والهدى والرشاد، والرد عن المضار والفساد، كما يبين في هذا النص الذي يقول فيه:"وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا؛ لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه"[15].

وفي مجال السياسة الشرعية يرى ابن خلدون أن المقصد الأهم من الخلافة أو الملك هو الحفاظ على المعاني والمقاصد الشرعية للخلافة في الخليقة من حماية الدين، والسير على منهاج النبوة والخلافة الشرعية. جاء في المقدمة:" فقد رأيت كيف صار الأمر  إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيير إلا في الوازع الذي كان دينا، ثم انقلب عصبية وسيفا"[16].
لعل هذا النص يجلي رؤية ابن خلدون المقاصدية، والتي تنظر إلى الأمور نظرة مصلحية يهمها تحقيق مقاصد الشريعة ومعاني الأحكام الشرعية. وهذا هو الغرض المقصود من الخلافة، فإذا تحققت معاني الشرع ومقاصد الدين بملك أو سياسة مثلا، من إقامة الدين وتحري الحق والمصالح الشرعية فهو المطلوب تحصيله شرعا، يقول ولي الله الدهلوي:" وكلما أفهم الشرع المصلحة في موضع، فوجدنا تلك المصلحة في موضع آخر عرفنا ان الرضا يتعلق بها(أي المصلحة) بعينها لا بخصوص ذلك الموضع"[17]. 

إنها قضية صعبة، تلك هي قضية التمييز بين ما هو مقصود لذاته وغايته وما هو مقصود لغيره، فلا تهمنا المظاهر والأشباح بقدر ما تهمنا الحقائق والأرواح ، فالملك أو الخلافة ليسا مقصودين لذاتهما وإنما هما مطلوبان من حيث المصالح التي تجلب للرعايا المواطنين، والمفاسد التي تدفع عنهم، يقول الدكتور حسن الترابي:"والتكليف قد يقتصر على توخي الروح دون اشتراط شكل معين وقد يشتمل اعتماد بعض أشكال التعبير عنها طلبا أو نهيا. ومن أعسر قضايا الفقه الديني إدراك ما هو مقصود بغايته وصورته أيضا بالنية والشكل معا من مظاهر التدين التي جاء بها النموذج الشرعي عهد نزول القرآن وحياة الرسول صلى الله عليه وآله، وما جاءت فيه الصورة عرضا غير مشروطة بذاتها على التأييد[18] بل لكونها وسيلة التعبير المتاحة في تلك البيئة الأولى من مقصود الشرع"[19].
وأصل اعتبار المصالح يشهد به أولو العلم من أئمة الأمة باتفاق، وهو أصل متفق عليه في جميع الشرائع، يقول الطاهر بن عاشور:" فالشرائع كلها، وبخاصة شريعة الإسلام، جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل؛ أي في حاضر الأمور  وعواقبها..."[20].   

تداخل المصالح والمفاسد.

وهذا باب عظيم، ينم التمكن منه عن فقه مقاصدي عميق، وربما زلت بسبب الجهل به أو تجاهله أقدام، وزاغت فيه أفهام، فإن هذا بحتاج إلى أنواع من الفقه كفقه الموازنات والأولويات[21].
يقرر علماء المقاصد أن المصلحة الخالصة يعز وجودها، فإن كل مصلحة في هذه الدنيا تكتنفها مشاق وتتخللها آلام أو مفاسد، كما نبه على ذلك علماء المقاصد، "وذلك ان هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين، والاختلاف بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق"[22].
ومن مظاهر مراعاة الشريعة للمصالح أن الشارع الحكيم لا يذم شيئا إلا لمفاسده الغالبة وإن ظهر لبادئ الرأي أن فيه مصلحة، ولا يأمر بشيء إلا لمصالحه الغالبة وإن بدا لأول النظر أن فيه مفسدة.
وقاعدة رعاية الشرع للمصالح الغالبة قاعدة عامة، يمكن تعميمها على كل مجالات الحياة الإنسانية، فإن مقصود الشارع من أحوال المعاش والمعاد ما ينتج عنها من المصالح ، وما تصرف فيه من وجوه الحق ومقتضيات الشرع.
يقول ابن خلدون:" واعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة، ومن فقد المطية فقد الوصول، وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي تنشأ عليها بالكلية، إنما قصد تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من كانت هجرته إلى الله ورسوله" [23].[24].


المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم
- المقدمة لابن خلدون لتحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي.
- مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، الدكتور يوسف أحمد محمد البدوي
- الموافقات في أصول الشريعة، الإمام الشاطبي
- القواعد الصغرى، العز بن عبد السلام
- حجة الله البالغة ، ولي الله الدهاوي
[18]- هكذا في الأصل، ولعل الصواب على التأبيد كما يدل عليه سياق كلام الدكتور. 
[19]- قضايا التجديد، نحو منهج أصولي للدكتور حسن الترابي
 - مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة الطاهر بن عاشور، ص180. ويتابع الطاهر بن عاشور كلامه موضحا معنى الآجل:"وليس المراد بالآجل أمور الآخرة، لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة". وقد استغرب الدكتور يوسف البدوي من ابن عاشور هذا التفسير. مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، ص285.  ويبدو أنه ليس هناك ما يستدعي العجب من الدكتور الفاضل، لأن العلامة ابن عاشور لا يقصد بهذا الكلام عدم شمول المصالح للدنيا والآخرة، كما يدل عليه تتمة كلامه الذي يقول فيه:" وإنما نريد أن من التكاليف ما قد يبدو فيه حرج وإضرار للمكلفين وتفويت مصالح عليهم، مثل تحريم شرب الخمر وتحريم بيعها، ولكن المتدبر إذا تدبر في تلك التشريعات ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور". مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة الطاهر بن عاشور، ص180. فالشريعة تحدد للناس سيرهم في الدنيا لا في الآخرة، إذ الآخرة دار جزاء على الموافقة أو المخالفة لذلك المسار الذي رسمته للعباد في الدنيا. 
- ينظر العلاقة بين فقه الأولويات وفقه الموازنات في كتاب الدكتور يوسف القرضاوي: فقه الأولويات، ص29 وما بعدها، ويرى الكتور القرضاوي أن الأمة المسلمة اليوم في مسيس الحاجة إلى خمسة أنواع من الفقه، هي: فقه المقاصد،فقه الأولويات، فقه السنن، فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقه الاختلاف. ينظر معاني هذه الأنواع في كتاب: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ص7-8.
- الحديث بتمامه: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". ينظر صحيح البخاري، 1/3.حديث رقم 1.باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من  بعده. صحيح مسلم 3/1515. حديث رقم1907.باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال.
    




ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة مقاصد
تصميم : معاد برادة